القبس /108(وَلۡيَسۡتَعۡفِفِ ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا ) سورة النو ر:33- العفّة رأس كل خير

| |عدد القراءات : 92
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

 (وَلۡيَسۡتَعۡفِفِ ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا )

موضوع القبس:العفّة رأس كل خير

(العفّة) ملكة وصفة نفسية كسائر الملكات النفسية مثل الشجاعة والكرم والحلم والرحمة:تحصّن صاحبها من الإنقياد للشهوة وإتباع الهوى والوقوع في القبيح، من وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لمحمد ابن أبي بكر لما ولاه مصر (اعلم ان افضل العفّة الورع في دين الله والعمل بطاعته) وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال:(العفاف يصون النفس وينزهَّها عن الدنايا)([1])، فالعفّة كالتقوى من هذه الناحية ويمكن ان يكون الفرق بينهما ان العفّة صفة ذات والتقوى صفة فعل والمتعفّف من تحلى بتلك الملكة عن طريق الترويض ومجاهدة النفس، والاستعفاف طلب العفّة.

واذا اطلق لفظ (العفّة) فان الذهن العرفي ينصرف الى حفظ النفس من السقوط في اتباع الشهوة الجنسية بغير ما أحلّ الله تعالى ومخالفة احكامه في هذا المجال سواء على مستوى المظهر الخارجي كسفور المرأة او ميوعتها او عدم غض النظر الى غير ما أحلّ الله تعالى او العلاقات الجنسية غير المشروعة او أي انحراف في توظيف الحاجة الجنسية وإثارتها ونحو ذلك فهذا كله ينافي العفاف، وقد جاء الامر الإلهي صريحاً بتنزيه النفس في هذا المجال قال تعالى (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ) (النور:33) والخطاب موجّه الى كلا الجنسين فأمروا بالتعفف وحفظ النفس من الحرام بالتزويج إن كانوا قادرين عليه ومؤهلين له، وإن لم تكن عندهم القدرة على التزويج فليتعففوا بالصبر والانشغال بالطاعات والاعمال المفيدة المثمرة والابتعاد عن المثيرات الجنسية وبمساعدة التذكر والالتفات الى ان الإنسان في محضر الله تبارك وتعالى وتحت نظره وفي رقابة الملائكة (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (ق:18)، ومفتاح هذه الحصانة عملياً يتحقق بغض البصر (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ، وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) (النور:30-31).

وهذا الامر الشرعي لغض البصر ليس مختصاً بشريعة الإسلام وإنما هو موجود في الشرائع السماوية الاخرى، ففي أنجيل (متى:5:27-29) (قد سمعتم انه قيل للقدماء لا تزن، واما أنا أقول لكم إن كل من ينظر الى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه، فان كانت عينك اليمنى تعثرك فأقلعها وألقها عنك، لانه خير لك أن يهلك احد أعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم)([2])

وقد بلغ التأديب الشرعي حداً دقيقاً في مجال العفاف لكلا الجنسين كقوله تعالى (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ) (النور:31) ويكره للرجل ان يقعد في مكان قامت عنه المرأة حتى تذهب حرارة بدنها عنه، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال:(قال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم):إذا جلست المرأة مجلساً فقامت عنه، فلا يجلس في مجلسها رجل حتى يبرد)([3]).

فالآية الكريمة تدعو الرجال والنساء الذين لم يتيّسر لهم تلبية شهواتهم الجنسية بالزواج الى التعفف وحفظ النفس من الوقوع في الحرام الى ان يغنيهم الله من فضله ويهيئ لهم أسباب الزواج السعيد المبارك، وروى في صحيح البخاري عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قوله:(يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فانه اغضّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطيع فعليه بالصوم فانه له وجاء)([4]).

هذا على صعيد تفسير الآية الكريمة والمعنى المتبادر من العفاف، لكننا ذكرنا في اول الحديث ان العفّة جارية في كل انحاء السلوك ولا تقتصر على ما يتعلق بالشهوة الجنسية والعلاقة مع الجنس الاخر، وقد ورد لفظ العفاف بهذا المعنى في القرآن الكريم وبغيره أيضاً، فعلى صعيد التعفف من أي انحراف في توظيف الحاجة الجنسية قال الله تبارك وتعالى (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ) (النور:33) وقال تعالى (وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (النور:60) بحفظ نفوسهن عمّا تشتهي من التبرجّ والظهور للأجنبي وإبداء الزينة.

وعلى صعيد عفّة اليد من التجاوز على أموال الاخرين بغير حق قال تعالى (وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ) (النساء:6) وعلى صعيد عفّة النفس واستغنائها عن الطلب من الناس قال تعالى (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً) (البقرة:273) وفي عفّة اللسان ورد قوله تعالى (لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ) (النساء:148) وفي عفّة البطن ورد قوله تعالى (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ) (عبس:24) وقوله تعالى (وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) (الأنعام:121) وجمعت آية أخرى كل معاني العفاف، قال تعالى (إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ)(الأعراف:82) أي يتعففون وينزهون أنفسهم عن فعل القبيح في كل شؤون حياتهم.

وهكذا تنوعت الأحاديث الشريفة أيضاً فورد في عفّة البطن عن أكل الحرام بسبب حرمة نفس الطعام والشراب كالخمر ولحم الخنزير واللحوم غير المذبوحة بطريقة شرعية او الأطعمة المتنجسة او بسبب حرمة المكسب او حرمة المال، قول أمير المؤمنين (عليه السلام):(اذا أراد الله بعبد خيراً أعفّ بطنه وفرجه) ([5]) وعن الامام الباقر (عليه السلام) قال (ما عُبد الله بشيء أفضل من عفّة بطنّ وفرج).

و ورد في عفّة المعاملة مع الناس قولاً وفعلاً قول رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) (من طالب حقاً فليطلبه في عفاف) أي بوسائل مشروعة ولأغراض صحيحة.

ويبلغ العفاف اسمى مراتبه في عفّة القلب وطهارته من كل الرذائل الخُلقية كالحقد والحسد والانانية والعصبية والرياء والعجب وغيرها ويتسامى اكثر فلا يسكن فيه غير محبة الله تبارك وتعالى (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء:88 - 89) وسلامة القلب تعني طهارته وتعفّفه عن التعلق بما سوى الله تعالى، لما سُئِل الامام الصادق (عليه السلام) عمّا يسمونه بالعشق بين الجنسين قال (عليه السلام):(قلوبٌ خلت من ذكر الله فاذاقها الله حب غيره)([6])

وعلى هذا يكون من الطبيعي ما ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال:(العفّة رأس كل خير) لان حصول ملكة العفّة في النفس تجعل الإنسان صالحاً مؤهلاً لاستقبال الالطاف والتوفيقات الإلهية كما ورد في القرآن الكريم في حق مريم (عليها السلام) (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:91) والفاء هنا للتفريع فعفتها واحصانها كان سبباً لنيل هذه الكرامة، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال (اذا أراد الله بعبد خيراً أعفّ بطنه وفرجه)([7]).

وتحصل ملكة العفاف بعلاجين:نظري وعملي:

اما النظري فمن خلال الالتفات الى أهمية العفّة في استقامة الانسان وعظيم بركاتها في الدنيا والآخرة، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال (أفضل العبادة العفاف) وورد عنه (عليه السلام) في فضل من له القدرة على ارتكاب ما ينافي العفاف سواء في العلاقة مع الجنس الاخر أو أكل الحرام أو الظلم أو النيل من الآخرين بلسانه ونحو ذلك لكنه يمنع نفسه عن ذلك تعففاً قال (ما المجاهد الشهيد في سبيل الله بأعظم اجراً ممن قدر فعفَّ، لكاد العفيف ان يكون ملكاً من الملائكة) وعنه (عليه السلام) قال (من عفَّ خفَّ وزره وعظم عند الله قدره) وجعل (عليه السلام) في حديث آخر من ثمراتها قلة الاحزان.

ومن العلاج النظري:ان يلتفت الإنسان الى قــدر نفســه وعظيــم ثمنهــا

وحينئذ لا يرضى لها بغير العفاف والترفع عن اتباع الاهواء والشهوات والخوض في الأمور الدنية، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال (ينبغي لمن عرف نفسه ان يلزم القناعة والعفَّة) وعنه (عليه السلام) قال:(من عقل عفَّ).

اما العلاج العملي:فنعني به ترويض النفس ومجاهدتها وتدريبها على القناعة بالقليل من الحلال اذا وجد، او الصبر اذا لم يحصل على القليل، ولذا يوصي أمير المؤمنين (عليه السلام) من يريد التأسي به بقوله (الا وانكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد) وفي حديث مروي عنه (عليه السلام) قال (أصل العفاف القناعة) وعنه (عليه السلام):(من قنعت نفسه اعانته على النزاهة والعفاف).

وهذا واضح من أصل اشتقاق الكلمة لغوياً فقد قيل انها من (العُفّة) وهي بقية اللبن في الضرع فكأن الضرع يعف بها عن الخروج ويحفظها فيه او ان هذه البقية من اللبن تعف عن ميل اللبن الى الخروج وتُسمى (العُفافة) ايضاً فيقال عففت فلاناً أي سقيته العُفافة وهو (الاقتصار على تناول الشيء القليل الجاري مجرى العُفافة، والعُفّة:أي البقية من الشيء)([8]).

والحياء و العفّة توأمان، فالحياء ينتج العفّة، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال (سبب العفّة الحياء)([9]) وعنه (عليه السلام) قال (على قدر الحياء تكون العفّة) وفي رسالة الامام الصادق (عليه السلام) الى شيعته التي امرهم بمدارستها والنظر فيها يومياً (عليكم بالحياء، والتنزه عما تنّزه عنه الصالحون قبلكم).

اننا اليوم احوج ما يكون الى إشاعة ثقافة العفّة في جميع المجالات حيث تعاني المجتمعات من الانحراف الأخلاقي والاجتماعي والفكري والفساد المالي والإداري والكل يتحدث عن النزاهة والمبادئ العليا والاخلاق الكريمة وحقوق الانسان ولا نجدها على الواقع بينما يقول أمير المؤمنين (عليه السلام):(النزاهة آية العفّة).

وتحقيق العفاف مسؤولية اجتماعية تضامنية يشترك فيها الجميع، فالشاب الذي يريد ان يتعفف ويحصِّن نفسه بالزواج ولا يجد الى ذلك سبيلاً يتحمل مسؤولية تزويجه القادرون على ذلك، وعفّة اليد تتطلب مؤسسات فاعلة تثقف المجتمع بحرمة التجاوز على المال العام وتكافح الفساد، وعفّة البطن تدعو الى مراقبة السوق وأنواع الكسب الموجودة لمنع الكسب الحرام وهكذا بقية المجالات.

وفي يوم العفاف الذي اختير له ذكرى ميلاد سيدة العفاف العقيلة زينب الكبرى (عليها السلام) نقف إجلالاً ونقدّم اسمى تحيات الاكبار والتعظيم للسيدات العفيفات على مر التاريخ وقدواتهن المباركات السيدة مريم ابنة عمران وآمنة بنت وهب أم رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وخديجة بنت خويلد أم المؤمنين التي كانت تُسّمى (الطاهرة) في الجاهلية التي عم فيها الفساد، وفاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين (عليه السلام) التي كانت عابدة موّحدة في الجاهلية الوثنية وفاطمة الزهراء (عليها السلام) سيدة نساء العالمين وزينب بنت أمير المؤمنين (عليهما السلام) عقيلة آل رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) اللواتي يفتخر الامام المعصوم زين العابدين (عليه السلام) بالانتساب لهن ويقف فى مجلس الطاغية يزيد ويقول (أنا ابن نقيات الجيوب، أنا ابن عديمات العيوب)([10])، ومن سار على نهجهن من النساء المؤمنات.

ونستذكر في هذه المناسبة المؤمنات العفيفات اللواتي مضين الى ربهّن شهيدات صابرات صامدات في سجون الانظمة الطاغوتية الجائرة قديماً وحديثاً ولم يتنازلن عن شرف المبادئ السامية رغم التعذيب الوحشي فطوبى لهن وحسن مآب، واشكر الاخوة الذين وفِّقوا لإحياء ذكراهن واستعادة كلماتهن والتذكير بمواقفهن ضمن فعاليات هذا اليوم الشريف.

 

 



([1]الروايات المذكورة أوردها في ميزان الحكمة: 6/72 عن مصادرها

([2]نقله عنه في تفسير الفرقان:20/238.

([3]الوسائل ، ج 20 كتاب النكاح ، أبواب مقدمات النكاح ، ب 145 ح 1 .

([4]صحيح البخاري: 7/3/ح 5066, ط. دار طوق النجاة

([5]الحديث وما بعده تجدها في ميزان الحكمة للريشهري: 3/2006-2007-2008, وغيرها

([6]أمالي الصدوق: 765ح1029.

([7]الحديث وما بعده تجدها في ميزان الحكمة للريشهري: 3/2006-2007-2008, وغيرها

([8]مفردات القرآن للراغب الاصفهاني، مادة (عف)

([9]هذه الاحاديث عن الحياء نقلها عن مصادرها في ميزان الحكمة : 2/509

([10]الاحتجاج- الطبرسي: 2/39, وبعض المصادر ترويها عن الإمام الحسن في مجلس معاوية كما في (مناقب آل أبي طالب- ابن شهر آشوب: 3/178