ملحق:شكوى القرآن

| |عدد القراءات : 136
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

ملحق:شكوى القرآن([1])

الافتتاح:

اعتاد الناس افتتاح الندوات والمؤتمرات واللقاءات وبرامج الإذاعة والتلفزيون بتلاوة آيات من الذكر الحكيم تبركاً بها وتعظيماً لها وقد جرى على ذلك حتى غير المسلمين مما يدلُّ على هيبة هذا الكتاب الكريم حتى في قلوب أعدائه، فما أحرانا نحن طلبة الحوزة الشريفة أن نفتتح دروسنا بالقرآن الكريم وينبغي أن يكون افتتاحاً واعياً متفاعلاً مع روح القـرآن ومضامينـه ومعانيـه وليــس افتتاحا شكليا وكأنه مجرد نشيد وترنيمه أو عوذة وتميمة.

القرآن يشكو:

وقد اخترت أن أبدأ من الحديث الشريف المروي في الكافي والخصال عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:(ثلاثة يشكون إلى الله عز وجل مسجد خراب لا يصلي فيه أهله وعالم بين جهّال ومصحف معلّق قد وقع عليه الغبار لا يُقرأ فيه)([2]) وأوضح مصاديق العالم هم أهل البيت (عليه السلام) وخصوصاً الإمام الفعلي القائم بالأمر (أرواحنا له الفداء) فالثلاثة الذين يشكون هم القرآن والعترة والمسجد ويدل عليه ما ورد في حديث آخر عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) قال:(يجيء يوم القيامة ثلاثة يشكون:المصحف والمسجد والعترة يقول المصحف يا ربّ حرّفوني ومزقّوني، ويقول المسجد:يا رب عطلّوني وضيعّوني وتقول العترة يا رب قتلونا وطردونا وشردونا، فأجثو للركبتين في الخصومة فيقول الله عز وجل لي:أنا أولى بذلك منك)([3]).

ونستفيد من هذا الحديث أكثر من أمر:

الأول:إن أسس بناء الأمة المسلمة ومقومات كيان المجتمع المسلم هي هذه الأركان الثلاثة، لذا تــم التركيـز عليهـا، والحديـث علـى هـذا يكـون بمعنـى

 حديث الثقلين المشهور:(إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً وقد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض يوم القيامة)([4]). والثقلان هما اثنان من هذه الثلاثة، أما الثالث وهو المسجد فهو المحل الذي يمارس الثقلان من خلاله دورهما في المجتمع ويرتبطان في أجوائه المقدسة بالأمة.

الثاني:الإشعار بأن الأمة ستعرض عن هذه الثلاثة وستخلفها وراء ظهورها لذلك أخبر (صلى الله عليه واله وسلم) عن الشكوى كحقيقة واقعة وهو (صلى الله عليه واله وسلم) يحذر الأمة من هذا التضييع ويبالغ في العقوبة عليه حتى كأنَّ الله تبارك وتعالى هو الخصم المطالب بحقها وهو الحكم العدل.

وما دامت هذه الثلاثة هي أسس كيان المسلمين فتضييعها يعني زوال هذا الكيان وفناءَه لذا كان لزاماً علينا أن نفرد كل واحد منها ببحث خاص لبيان أثره في حياة الأمة وعظيم خسارتها بالإعراض عنه، وأساليب تفعيل دوره في حياة المسلمين.

وأرى من واجبي أن أنصب نفسي (مدعياً عاماً) كما يعبرون اليوم لأرفع هذه الشكاوى الثلاث وأبدأ برفع شكوى ثقل الله الأكبر:القرآن الكريم وهو الحبل الممدود من الله تبارك وتعالى إلى عباده، هذه الشكوى التي يرفعها رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) يوم القيامة:(وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) (الفرقان:30) وحذّر المسلمين من هذا الخطر حين عرض عليهم سبب انحراف الأمم السابقة وهو ترك ما أنزل الله إليهم، قال تعالى:(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ)(المائدة:8). فمن تمسك به فقد سلك الطريق الموصل إلى الله ومن أعرض عنه هلك وهوى.

ومنشأ هذه الشكوى إعراض مجتمعنا المسلم حتى الملتزمين([5]) منهم عن تلاوة القرآن والاهتمام به وتدبر آياته فضلاً عن إعطائه دور الريادة والإمامة في الحياة ليكون هو النبراس والدليل الذي يهتدي به المهتدون في جميع تفاصيل الحياة، حتى عاد منسياً عندهم ولا يذكرونه إلا قليلا في شهر رمضان المبارك، ونحن نحث على زيادة الاهتمام بالقرآن في هذا الشهر المبارك للعلاقة الحميمة بينهما، حتى ورد في الحديث:(إن لكل شيء ربيعاً وربيع القرآن شهر رمضان)([6]) لكن هذا لا يعني إهماله أو قلة التعرض له في غيره من الشهور.

البعد عن القرآن سبب انحطاط المسلمين:

إن اختيار الحديث عن هذه الشكوى لم يأت اعتباطاً وليس هو من الترف الفكري بل هو ناشئ عن بصيرة نافذة ونظر ثاقب في تحليل واقع المسلمين وما تردت إليه أوضاعهم حتى صاروا يهدون مقتلهم على طبق من ذهب إلى أعدائهم الذين هم إبليس والنفس الأمارة بالسوء وصنيعتها الغرب الكافر الذي جهد على أن يفصل بين المسلمين وعنوان عزهم وشرفهم وكرامتهم وهو القرآن وها هو غريب بينهم، لذا ثارت في قلبي شجون.

إن أسباب انحطاط الأمة وما آلت إليه من ضعف وانحلال هو إعراضها وعدم تمسكها بحبل الله تبارك وتعالى الذي أمرهم بالاعتصام به فقال عز من قائل:(وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ)(آل عمران:103)، وقد بين رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) هذا الحبل فقال (صلى الله عليه واله وسلم):(وإني مخلف فيكم الثقلين:الثقل الأكبر القرآن والثقل الأصغر عترتي أهل بيتي هما حبل الله ممدود بينكم وبين الله عز وجل ما إن تمسكتم به لم تضلوا، سبب منه بيد الله وسبب بأيديكم . . . الحديث)([7]).

ما تمسك بالقرآن مَن أعرض عن العترة الطاهرة:

ولكن الأمة تركت كتاب الله وابتعدت عنه منذ أن أقصت العترة الطاهــرة عن مكانها الذي اختارهم الله سبحانه له لعـدم إمكـان الفصل بينهمـا معرضين عـن

قوله تعالى:(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ)(القصص:68).

ومن خطل القول وتسويلات الشيطان ونزغات النفس الأمارة بالسوء أن يقول قائل (حسبنا كتاب الله)([8]) التي لا يزال يكررها وينفثها الشيطان على لسان من يريد أن يقوض بناء الإسلام من أسسه بما فيها القرآن الذي يدعي أنه حسبه لأنه يعلم أن القرآن إنما يكتسب فاعليته ويؤدي دوره بالقائم به الواعي لأحكامه ومفاهيمه وهم العترة.

وهذه الفتنة –الفصل بين القرآن والناطق به - قديمة وممن ابتلي بها أمير المؤمنين حينما أجبر على التحكيم وعلى أن يجعل القرآن حكماً، قال (عليه السلام):(هذا القرآن إنما هو خط مستور بين الدفتين لا ينطق بلسان ولا بد له من ترجمان وإنما ينطق عنه الرجال)([9]) فالكتاب والعترة صنوان لا يفترقان ولا يمكن التمسك بأحدهما دون الآخر فإن أهل البيت (عليه السلام) هم باب الله الذي لا يؤتى إلا منه وقد أمرنا بإتيان البيوت من أبوابها.

فما يزعمه غيرنا من اهتمامه بالقرآن أكثر منا باطل جزماً، نعم، اهتموا بمخارج حروفه وتحسين الصوت إلى حد الغناء بقراءته وضبط قواعد التجويد التي وضعوها هم وبعضها مخالف للحكم الشرعي، وهذه كلها اهتمامات قشرية والمهم هو استيعاب المحتوى والمضمون والعمل به فإن اللفظ هو قشر والمعنى هو اللب والمتكلم لا يلحظ اللفظ بنفسه بل يتخذه وعاءً للمعنى وآلة لإيصاله إلى المخاطب والمعنى هو المراد الحقيقي للمتكلم.

وقد وردت أحاديث كثيرة في ذم المتشدقين بألفاظ القرآن وحروفه المضيعين لمعاني القرآن وحدوده ففي الحديث المشهور (كم من قارئ للقرآن والقرآن يلعنه)([10]) وهو خصمه لأنه غير عامل بما فيه وفي حديث عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:(قرّاء القرآن ثلاثة:رجل قرأ القرآن فاتخذه بضاعة واستدر به الملوك واستطال به على الناس فذاك من أهل النار، ورجل قرأ القرآن فحفظ حروفه وضيع حدوده فذاك من أهل النار، ورجل قرأ القرآن فوضع دواء القرآن على داء قلبه فأسهر به ليله وأظمأ به نهاره وقام به في مساجده وتجافى به عن فراشه فبأولئك يدفع الله العزيز الجبار البلاء، وبأولئك يديل الله من الأعداء-أي ينصرهم على الأعداء- وبأولئك ينزل الله الغيث من السماء فوالله هؤلاء قراء القرآن أعز من الكبريت الأحمر)([11]). وفي حديث عن الإمام الحسن (عليه السلام):(وإن أحق الناس بالقرآن من عمل به وإن لم يحفظه وأبعدهم منه من لم يعمل به وإن كان يقرأه)([12]).

لكي يفرغوا مضمون القرآن:

فيبدو من هذا أن خطّة الفصل بين الكتاب والعترة وبالتالي تفريغ الكتاب من محتواه ومضمونه والتشجيع على الاهتمام بألفاظه فقط قديمة، وقد نبه إليها المعصومون (عليهم السلام) فأي اهتمام بالقرآن وهو يقرأ قوله تعالى:(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) (القصص:68) ثم يعرضون عمن اختارهم الله تبارك وتعالى ويقدمون غيرهم وقد جعل الله تعالى هذا الأمر كله في كفة ورسالة الإسلام كلها في كفة أخرى (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)(المائدة:67).

وأي اتباع للقرآن الذي يقول برفيع صوته (قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)(الشورى:23) وهم ينصبون العداء لأهل بيت النبوة ويتتبعونهم تحت كل حجر ومدر ولو كان لهم أدنى فهم لكتاب الله لضموا هذه الآية إلى قوله تعالى (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً)(الفرقان:57) ليحصلوا على حقيقة أن أهل البيت هم السبيل الذي أمر الله تعالى باتباعه بقوله (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(الأنعام:153) وبه فسر الإمام الباقر (عليه السلام) الآية فقال (عليه السلام):(نحن السبيل فمن أبى هذه السبل فقد كفر)([13]).

كلمة حق يراد بها باطل:

ولا أقول أن كلمة (حسبنا كتاب الله) والأبواق التابعة لها التي ترددها إلى الآن وتطلب الدليل من القرآن فقط على أي شيء يقال لهم هي كلمة حق يراد بها باطل بل هي كلمة باطل يراد بها باطل وهؤلاء إنما يريدون بذلك هدم أسس الإسلام لأن الاكتفاء بالقرآن –كما يزعمون - يعني استغناءهم حتى عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وهو يعني الجهل بكل تفصيلات الشريعة، فإن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) والأئمة المعصومين من آله هم القائمون على أمر الكتاب والمبينون لأحكامه.

وهذه العلوم كلها بين يديك هل تستطيع أن تكون طبيباً أو مهندساً من دون أخذه على يد المتخصصين العارفين بأسراره وفك رموزه؟ فكيف بالقرآن الذي هو:(تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ)(النحل:89) و (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ)(الأنعام:38) وفيه صلاح البشرية جميعاً ولكل الأزمنة (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)(الصافات:154) وقد نبه رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) إلى هذا الخطر بقوله:(لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول:لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه)([14]).

التخطيط لقتل الإسلام:

ولكن أعداء الله سبحانه وأتباع الشيطان علموا أن القرآن هو حصن هذه الأمة الحامي لها من الزيغ والانحراف، وأن أهل البيت (عليهم السلام) هم بيانه وترجمانه والعارفون بحقائقه وحبل الوصل بينه وبين الأمة فخططوا لإبعادهم عن الأمة فبقيت الأمة بلا راع والحصن بلا حام، وأصبحت فريسة سهلة بيد الأعداء والمتربصين بها السوء، وها أنت تراها تتزعزع لأبسط شبهة وتسقط في أول فتنة وتنهار بأول اختبار ((وهذه أعظم ثلمة انثلم بها علم القرآن وطريق التفكر والتفكير الذي يندب إليه، ومن الشاهد على هذا الإعراض قلة الأحاديث المنقولة عنهم (عليهم السلام) فإنك إذا تأملت ما عليه علم الحديث في عهد الخلفاء من المكانة والكرامة وما كان عليه الناس من الولع والحرص الشديد على أخذه ثم أحصيت ما نقل في ذلك عن علي والحسن والحسين وخاصة ما نقل من ذلك في تفسير القرآن لرأيت عجباً:أما الصحابة فلم ينقلوا عن علي (عليه السلام) شيئا يذكر وأما التابعون فلا يبلغ ما نقلوه عنه (عليه السلام) -إن أُحصي - مائة رواية في تمام القرآن، وأما الحسن (عليه السلام) فلعل المنقول عنه لا يبلغ عشراً، وأما الحسين (عليه السلام) فلم ينقل عنه شيء يذكر، وقد أنهى بعضهم الروايات الواردة في التفسير إلى سبعة عشر ألف (ذكره السيوطي في الإتقان) حديث من طريق الجمهور وحده، وهذه النسبة موجودة في روايات الفقه أيضاً))([15]).

الخسارة الجسيمة:

فماذا كانت خسارة القرآن بإبعاد أهل البيت (عليهم السلام) عن ممارسة دورهم الذي اختارهم الله تبارك وتعالى له:

1-    غياب الكثير من العلوم الحقيقية التي لا يفهمها من الكتاب إلا هم (عليهم السلام).

2-    تراجع القرآن عن ممارسة دوره في إصلاح النفس والمجتمع لأنه والعترة صنوان لا يفترقان ولا يستطيع أن يكون فاعلاً في حيـاة الأمة إلا بأيديهم.

3-    وقوع القرآن فريسة بأيدي المتلاعبين وأصحاب الأهواء والأغراض الشخصية بل والأعداء أيضاً، فترى كلاً منهم يجد دليلاً على معتقده في كتاب الله حتى الخوارج كانوا يستدلون بالقرآن كما حصل بعد التحكيم بينهم وبين ابن عباس فنهاه علي (عليه السلام) عن الاحتجاج بالقرآن لأنه (حمّال ذو وجوه)([16]) وراحت معانيه الحقيقية ضحية التأويلات التي حذر القرآن من اتباعها:(فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ)، لكن الجواب واضح وأعطاه القرآن مقدماً:(وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (آل عمران:7)، وأوضح مصاديق الراسخين في العلم هم أهل البيت (عليهم السلام).

4-    تشتت الأمة وضياعها وتمزيقها لأن عصمتها ومحور تجمعها القرآن وأهل البيت بحسب تفسير رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) لقوله تعالى:(وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ)(آل عمران:103)، فقال (صلى الله عليه واله وسلم):إنهم الكتاب والعترة، وقد عبرت الزهراء (عليها السلام) عن هذه العصمة في خطبتها في مسجد رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم):(وجعل إمامتنا نظاما للملة)([17]) أي بها تنتظم أمورهم وتستقر، فكانت نتيجة ابتعادهم عن أهل البيت فناءهم بيد المتسلطين وعبدة الأهواء الذين استغلوا نفس هذا القرآن ليهلكوا الحرث والنسل وكان من (وعاظ السلاطين) والسائرين في ركابهم من يبرر لهم هذه الأفعال المنكرة، كقوله تعالى:(أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) (النساء:59)، فجعلوا أولئك الكفرة الفسقة أولياء لأمور المسلمين.

الوصية بحفظ القرآن

فلا تغرنكم دعوى هؤلاء بأنهم ملتزمون بالقرآن أكثر منا([18]) واحفظوا القرآن لأنه أهل للحفظ والعمل به وكونوا كما أوصاكم أمير المؤمنين (عليه السلام) قبيل استشهاده:(الله الله بالقرآن لا يسبقكم إلى العمل به غيركم)([19])، وفي وصية النبي (صلى الله عليه واله وسلم) لأمير المؤمنين في العمل بأربعين حديثاً قال (صلى الله عليه واله وسلم):(وأن تكثر من قراءة القرآن وتعمل بما فيه)([20]).

القرآن طريق الوصول إلـى المعرفة:

فمن أراد الله سبحانه وطلـب الوصول إليـه لأن أول الديـن معرفتــه تبــارك وتعالى فعليه بالقرآن (لقد تجلى الله لخلقه في كلامه، ولكن لا يبصرون)([21])، كما هو مروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) ومن أراد إصلاح نفسه وتهذيبها وتخليصها من أمراضها فعليه بالقرآن، ومن أراد إصلاح مجتمعه وإقامة أمره على السلام والسعادة والطمأنينة فعليه بالقرآن فإنه الدليل لكل هدى والمرشد لكل خير وصلاح.

ومن العجب أنك حين يعطل جهاز تذهب إلى الجهة المصنّعة له لكي تصلحه فإن صانع الشيء خبير به، وإذا مرضت –لا سمح الله - فتذهب إلى الطبيب المختص لكي يعالج المرض، ثم عندما تريد أن تصلح النفس الإنسانية ذات الأسرار الغامضة الخافية عن صاحبها فضلاً عن غيره، أو أن تضع نظاماً يكفل للبشرية سعادتها وإصلاحها تلتمس العلاج عند نفس البشر الناقصين العاجزين القاصرين. ولا تذهب إلى صانع هذا الإنسان وخالقه ومصوره والعارف بالنفس البشرية.

وقد صدَّقت ذلك –أي فاعلية القرآن في إصلاح النفس والمجتمع- التجربة العظيمة لرسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) فإن مقارنة بسيطة بين مجتمع ما قبل الإسلام وما بعده والنقلة الضخمة التي حصلت للأمة من أناس همج جهلة متشتتين قد تفشت بينهم الرذائل يتفاخرون بالمنكرات والقبائح إلى أمة متحضرة كريمة الأخلاق ذات نظام لم ولن تعرف البشرية البعيدة عن الله سبحانه مثله وبفترة قصيرة وكل ذلك ببركة هذا الكتاب الكريم وحامله العظيم.

حاجتنا إلـى إعادة القرآن إلـى الحياة:

فنحن إذن بحاجة إلى إعادة فاعلية القرآن في حياة المسلمين وإخراجه من عزلته بحيث اقتصر وجوده على المآتم التي تعقد للموتى والعوذ والأحراز .

وقد ورد في بعض الكلمات (إن آخر هذه الأمة لا ينصلح إلا بما صلح به أولها)، وقد صلح أولها بالقرآن فإذا أرادت الأمة أن تستعيد عافيتها وتعود إلى رشدها فعليها بالقرآن، عن المقداد (رضوان الله عليه) عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) أنه قال في حديث:(فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع وماحل مصدق ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار وهو الدليل يدل على خير سبيل)([22])، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض خطبه:(واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش والهادي الذي لا يضل، والمحدث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان:زيادة في هدى ونقصان من عمى، واعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة ولا لأحد قبل القرآن من غنى فاستشفعوه من أدوائكم واستعينوا به على لأواءكم فإن فيه شفاءً من أكبر الداء وهو الكفر والنفاق والغي والضلال فاسألوا الله عز وجل به وتوجهوا إليه بحبه ولا تسألوا به خلقه إنه ما توجه العباد إلى الله بمثله، واعلموا أنه شافع مشفع وماحل ومصدق وأنه من شفع له القرآن يوم القيامة صدق عليه فإنه ينادي مناد يوم القيامة:(ألا إن كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله غير حرثة القرآن)، فكونوا من حرثته وأتباعه واستدلوه علــى ربكــم

واستنصحوه على أنفسكم واتهموا عليه آراءكم واستغشّوا فيه أهواءكم)([23]).

اهتمام النبي وأهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين) بالقرآن:

ولقد بلغ اهتمام أهل البيت (عليهم السلام) بالقرآن أقصاه حتى قال الإمام السجاد (عليه السلام):(لو مات من بين المشرق والمغرب لما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي)([24]).

لقد أُمر رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) بتلاوة القرآن:(وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (المزمل:4) وأمره تبارك وتعالى بالاستعداد لتحمله بالالتزام بنافلة الليل فقال تعالى:(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً، إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) (المزمل:5-6) ولم يكتف رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) بتلاوته بل كان يطلب من عبد الله بن مسعود أن يقرأ القرآن عليه فيعتذر إليه (صلى الله عليه واله وسلم) قال:النبي (صلى الله عليه واله وسلم) لعبد الله بن مسعود اقرأ عليَّ قال:اقرأ عليك وعليك اُنزل قال:إني أحب ان أسمعه من غيري قال:فقرأ عليه من أول سورة النساء إلى قوله:(كَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا) (النساء:41) فبكى)([25]) يريد بذلك أن يمتع جميع جوارحه بالقرآن عينه وأذنه وقلبه ولسانه وهو يعلم أن لكل جارحة طريقتها في اكتساب المعرفة فأراد - وهو أكمل الخلق - أن تتكامل لديه كل أسبابها، وقد قيل:أن من فقد حساً - أي أحد حواسه الخمس - فقد فَقَد علماً، فيريد أن يستفيد من معارف القرآن عن طريق جميع جوارحه، لذا ورد استحباب أن يقرأ القرآن بصوت مسموع. هذا غير ما ورد في فضل وثواب الإنصات إلى القرآن والنظر في المصحف وإن كان يحفظ ما يقرأ حتى لو كان في الصلاة، مما سيأتي إن شاء الله تعالى في مجموعة الأحاديث الشريفة.

وكان (صلى الله عليه واله وسلم) يتفاعل مع القرآن، قرأ (صلى الله عليه واله وسلم) سورة الرحمن على المسلمين وهم منصتون له فقال (صلى الله عليه واله وسلم):لقد قرأتها على الجن فكانوا أحسن استماعاً منكم، قالوا وكيف يا رسول الله؟ قال (صلى الله عليه واله وسلم):كانوا كلما قرأت:(فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) يقولون هم:لا بشيء من آلائك ربنا نكذّب([26])، وإذا قرأ قوله تعالى:(أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى) يقول (صلى الله عليه واله وسلم):بلى سبحانك اللهم، لأنه كان يسمع من الله تبارك وتعالى مباشرة من خلال السطور. وسيأتي أن الإمام الكاظم (عليه السلام) كان يقرأ وكأنه يخاطب إنساناً([27])، قرأ رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) سورة الزمر على شاب نقي القلب طاهر السريرة فلما وصل إلى قوله تعالى:(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً)(الزمر:71) وقوله تعالى:(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً)(الزمر:73) شهق ذلك الشاب شهقة كانت فيها نفسه، وقرأ (صلى الله عليه واله وسلم) سورة هل أتى على الإنسان حين من الدهر وقد أنزلت عليه وعنده رجل أسود فلما بلغ صفة الجنان زفر زفرة([28]) فخرجت نفسه فقال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم):أخرج نفس صاحبكم الشوق إلى الجنة، فهؤلاء ممن وصفتهم الآية الشريفة:(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)(البقرة:121).

دواعي الاهتمام بالقرآن:

وقد ظهر مما سبق أكثر من محفز للاهتمام بالقرآن الكريم ألخصها مع نقاط جديدة غير ما سمعته إن شاء الله تعالى في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة:

1-    إنه العلاج الناجح والكامل لأمراض البشر النفسية والاجتماعية والروحية بل والجسدية أيضاً، كما سيأتي في بعض الأحاديث الشريفة.

2-    عدم استغناء طالب الكمال والسعادة الأبدية - وهو الهدف الأسمى وغاية الغايات - في الدنيا والآخرة عنه والاهتداء بهديه والأخذ بسبيله، ويزداد سمو الإنسان وتكامله كلما ازدادت استفادته من القرآن.

3-    إن في الاهتمام به تأسياً برسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وبأهل بيته الكرام وقد أمرنا بذلك في قوله تعالى:(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)(الأحزاب:21).

4-    إن القرآن هو رسالة الحبيب المطلق والإنسان لا يمل من إعادة قراءة رسالة حبيبه وملء النظر منها والتدبر في معانيها والله تبارك وتعالى هو المحبوب الحقيقي لاجتماع أسباب المحبة فيه، فإن الحب إما أن يكون لكمال المحبوب وحسنه وقد اجتمعت صفات الكمال والأسماء الحسنى فيه تبارك وتعالى، أو يكون لأجل صدور الفضل والإحسان منه، والله هو المنعم المتفضل المنان ابتداءً من غير استحقاق وحتى للعاصين من عباده (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا)(النحل:18)، وهكذا .وبهذا المعنى ورد في الحديث عن الصادق (عليه السلام) قال:(القرآن عهد الله إلى خلقه فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده وان يقرأ منه كل يوم خمسين آية)([29]).

5-    الثواب العظيم والأجر الجزيل الذي لا حدود له الذي يعطي لقارئ القرآن والمتدبر في آياته مما سنقرأه إن شاء الله تعالى في الأحاديث الشريفة.

6-    إن القرآن لما كان كتاباً حياً خالداً لكل زمان ومكان فإن المواقف التي عالجها والمشاكل التي واجهها لا تختص بزمان دون زمان، فيستفاد من القرآن إذن الحلول الدائمية المستمرة للمواقف المتجددة، وسنعرض الكثير منها في طي البحث كفكرة المقارنة بين الجاهليتين الأولى والحديثة، وفي هذا المعنى ما ورد عن الحارث الأعور قال:(دخلت المسجد فإذا أناس يخوضون في أحاديث فدخلت على علي فقلت:ألا ترى أن أناساً يخوضون في الأحاديث في المسجد؟ فقال:قد فعلوها؟ قلت:نعم، قال:أما إني قد سمعت رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) يقول:ستكون فتن، قلت:وما المخرج منها؟ قال:كتاب الله، كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم. هو الفصل ليس بالهزل، هو الذي من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، فهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم..)([30]).

7-    تعلّم المعارف والعلوم وأسرارها المودَعة فيه، بحيث أن مثل أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي يصف علمه عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن بأنه:ما علمي وعلم جميع أصحاب رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) في علم علي (عليه السلام) إلا كقطرة في بحر، أقول مثل علي (عليه السلام) في علمه (قيل له:هل عندكم شيء من الوحي؟ قال:لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا أن يعطي الله عبداً فهماً في كتابه)([31]).

ففي هذا الكتاب من العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة والتشريعات الحكيمة ونكات البلاغة وحسن البيان ما يلبي كل حاجة، وفيه أسرار الخلق وعجائب المخلوقات داخل جسم الإنسان وفي الكون والطبيعة، وفيه ما لم تتوصل إليه عقول المكتشفين. ولا يعني هذا أن القرآن كتاب فيزياء أو كيمياء أو فلك أو طب حتى تنعكس عليه أخطاؤها ونقائصها، وإنما هو كتاب هداية وإصلاح يوظف كل الأدوات لتحقيق غرضه، وهذه العلوم كلها تصب في هذا الهدف ويأخذ منها مقدار ما يحقق غرضه.

8-    براءة الذمة من شكوى القرآن إذا هجر، كما في الحديث الشريف المتقدم (ثلاثة يشكون . . .) وشكوى القرآن لا ترد عند الله تبارك وتعالى، كما في الحديث الشريف في وصفه أنه:(ماحِلٌ مصدَّق) أي أنه خصم مصدَق ويعطى الحق له ويدعم هذه الدعوى شكوى رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) المذكورة في القرآن:(وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) (الفرقان:30).

9-    الفوز بشفاعة القرآن، فقد وصفه الحديث بأنه:(شافع مشفّع) وفي صفه شفاعته يقول الحديث:(وكان القرآن حجيزاً عنه - أي حاجزاً وساتراً عن قارئ القرآن - يوم القيامة، يقول:يا رب إن كل عامل أصاب أجر عمله غير عاملي فبلّغ به أكرم عطائك، قال:فيكسوه الله العزيز الجبار حلتين من حلل الجنة ويوضع على رأسه تاج الكرامة ثم يقال له:هل أرضيناك فيه؟ فيقول القرآن:يا رب قد كنت أرغب له فيما هو أفضل من هذين قال:فيُعطى الأمن بيمينه والخلد بيساره ثم يدخل الجنة فيقال له:اقرأ آيـــة فاصعد درجة ثم يقال له هل بلغنا به وأرضيناك؟ فيقول:نعم)([32]).

وغير هذه الفوائد كثير، وأنت ترى أن بعضها لا يختص بالمسلمين، لذا تجد إقبال المفكرين والعلماء والقادة على الأخذ من هذا القرآن وإن لم يكونوا مسلمين.

وإلى هنا يكون ما ذكرت من المحفزات كافياً لأن يثير الإنسان ويحركه ويدفعه نحو احتضان هذا الكتاب الكريم المعطاء والاهتمام به حتى يخالط لحمه ودمه، وإني هنا ألُزم([33]) كل من يرى لي حقاً عليه سواء كان أخلاقياً أو شرعياً أن يختم القرآن على الأقل في السنة مرتين. وهذا مقدار يسير جداً إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن شهر رمضان وحده يمكن أن يُقرأ فيه نصف هذا المقدار أو أكثر.

وأهم مما ذكرت من المحفزات ما ورد في الأحاديث الشريفة التي اخترت لك منها مجموعة تتجاوز الأربعين حديثاً جرياً على سنة السلف الصالح الذين ألفّوا الكثير من كتب (الأربعون حديثاً) في شتى حقول المعرفة عسى أن يكونوا وأكون معهم من أهل هذا الحديث الشريف، قال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم):(من حفظ عني من أمتي أربعين حديثاً في أمر دينه يريد به وجه الله عز وجل والدار الآخرة بعثه الله يوم القيامة فقيها عالماً)([34]).

القرآن يصف نفسه:

ولكن الأهم من ذلك أن أتلو عليكم بعض الآيات التي وصف بها القــرآن

الكريم نفسه لنتعرف عليه، فإنه أعرف بذلك وهو كلام خير القائلين. ومن هذه الآيات تعرف جلالة قدر هذا الكتاب وعظمة آثاره وبركاته:

1-          (هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ) (آل عمران:138).

2-          (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) (النساء:105).

3-          (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِينًا، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً) (النساء:174-175).

4-          (قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (المائدة:15-16).

5-          (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم) (المائدة:66).

6-          (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ) (المائدة:68).

7-          (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء) (الأنعام:38).

8-          (وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ َ) (الأنعام:92).

9-          (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الأعراف:204).

10-    (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) (يونس:57).

11-    (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ ) (الإسراء:9).

12-    (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر:23).

13-    (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت:41 - 42).

14-    (اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانٌَ) (الشورى:17).

15-    (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) (الزخرف:4).

16-    (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (الزخرف:36).

17-    (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) (الزخرف:43-44).

18-    (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ) (الجاثية:20).

19-    (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد:24).

20-    (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) (ق:1).

21-    (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) (القمر:40).

22-    (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ، لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ) (الواقعة:77-79).

23-    (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد:16).

24-    (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الحشر:21).

25-    (وَرَتِّـــــلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً، إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) (المزمل:4-5).

26-    (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ) (البروج:21 - 22).

27-    (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ، وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ) (الطارق:13 - 14).

28-    (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا، قَيِّماً لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ) (الكهف:1 - 2).

29-    (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل:89).

30-    (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فإن لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُـرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه:124).

هذا بعض ما يتصف به القرآن من صفات وآثار حسنة فهو كتاب مبارك عزيز كريم مجيد وهو بيان وهدى وموعظة ورحمة وشفاء وذكر ونور نزل بالحق ليحكم بين الناس ويدخل المؤمنين في رحمة الله وفضله ويهديهم صراطاً مستقيماً وهو عليّ حكيم وبصائر للناس وقول ثقيل وفصل وما هو بالهزل، لذا فهو - أي حقائقه التي جُعِلت هذه الألفاظ وعاءاً لها وهي كالأمثلة لتقريب تلك الحقائق والمعاني العميقة إلى الأذهان - في كتاب مكنون ولوح محفوظ لا يمسه ولا يصل إلى فهم حقائقه الواقعية بشكل كامل إلا المطهرون من الذنوب والمعاصي والآثام وانجلت مرآة قلوبهم عن كل دنس فصارت تعكس بشكل كامل صفحة اللوح المحفوظ، أما غيرهم فليسوا جديرين بحمله إلا بمقدار ما أوتوا من الكمال(أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا) (الرعد:124).

أمِرَ الناس بتدبرّه وترتيله والتمسك به والإنصات له ولو كان من غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً، فإن أقاموه وتمسكوا به أكلوا من فوق رؤوسهم ومن تحت أرجلهم وخشعت قلوبهم ولانت، وكانوا أهلاً للفيوضات الإلهية وإن أعرضوا عنه أصبحوا في عيشة ضنكى واعتورتهم الشياطين حتى تصبح قرناء لهم وقست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة فإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يهبط من خشية الله وهذه القلوب البعيدة عن القرآن وذكر الله سبحانه صمّ جامدة لا تجري فيها ولا قطرة من أنهار المعرفة (وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الحشر:21).

شرح لبعض أوصاف القرآن:

ولكن هذا الشرح الإجمالي لصفات القرآن غير كافي، لذا أرى من الضروري تقديم شرح أكثر تفصيلاً لبعض هذه الصفات مما لها آثار اجتماعية أو أخلاقية تاركاً البعض الآخر إلى التفاسير المطولة في موارد الآيات التي ذكرتها، وإنما اذكر هذه الأوصاف ليس فقط للتعرف على القرآن بل للتعرف على أهل البيت (عليهم السلام) لأنهم عدل الكتاب وهما صنوان لا يفترقان فإذا كان القرآن ينطق بالحق فإنهم مع الحق والحق معهم وهو لا يأتيه الباطل وهم معصومون وإذا كان الكتاب قيّماً ومهيمناً، فلهم (صلوات الله عليهم أجمعين) قيمومة وسلطنة على الناس وهم أئمتهم وقادتهم وأولى بهم من أنفسهم، وهكذا:

مبارك:

أي كثير البركة وهو كذلك من عدة جهات فهو مبارك في محل صدوره لأنه نازل من الله تبارك وتعالى المتفضل المنان مفيض النعم التي لا حصر لها ولا عد، ومبارك في محل نزوله وهو قلب رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) الرحيم الكريم الذي أُُرسل رحمة للعالمين، ومبارك في آثاره ففيه الهداية والخير والسعادة في الدنيا والآخرة وفيه نظام حياة البشرية وقوامها وحفظ كيانها وفيه السلام والطمأنينة، ومبارك في حجمه فهو كتاب واحد إلا أن جميع أرباب العلوم والمعرفة يغترفون منه وهو معين لا ينضب فتجد الأصولي والفقيه والنحوي والأديب والمفكر والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والطبيب والمشرّع والحاكم يأخذون منه ويستدلون بآياته ومع ذلك يبقى خالداً معطاءً وهذا دليل نزوله من الله فإن هذا كله مما لا يمكن لكتب عديدة أن تضمه وتحويه، وهو مبارك بعدد الذين اهتدوا على يديه وتنورت قلوبهم وعقولهم ببركته.

عزيز:

أي يصعب مناله فإنه في كتاب مكنون وحقائقه العليا محفوظة في اللوح المحفوظ وما هذه الكلمات إلا أمثال لتقريب تلك المعاني إلى أذهان البشر المستأنسة بالماديات والتي لا تسمو لتنال تلك الحقائق، نعم، يمسها ويصل إليها ويعيها المطهرون الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً وهم آل محمد (صلى الله عليه واله وسلم) وقد سمعتَ أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول:إننا لا نملك علماً أكثر من فهم لهذا الكتاب، وهو عزيز بمعنى يندر وجود مثله وهو كذلك لأنه كلام من ليس كمثله شيء، وهو عزيز أي ممتنع عن أن ينال بسوء، فيكون بمعنى الآية الشريفة:(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9)، وهو عزيز بمعنى أنه قاهر وغالب ومتسلط لأنه كلمة الله وكلمة الله هي العليا فهو يعلو ولا يعلى عليه وموقعه دائماً التسلط والحاكمية على العباد والتصرف في شؤونهم، وهو عزيز بمعنى مطلوب كما قيل كل موجود مملول وكل مفقود مطلوب، وهذا الكتاب مطلوب لكل من أراد الوصول إلى الله تبارك وتعالى.

مجيد:

قال الراغب في المفردات:المجد:السعة في الكرم والجلال وأصله في قولهم (مَجدَتْ الإبل) إذا حصلت في مرعى كثير واسع فوصف القرآن بالمجيد لكثرة ما يتضمن من المكارم الدنيوية والأخروية وعلى هذا وصفه بالكريم بقوله تعالى:(إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) (الواقعة:77).

لسعة فيضه وكثرة جوده،وقد أشرنا في شرح صفة (مبارك) إلى هذه الآثار الواسعة.

قيَّماً:

من القيمومة، فهذا الكتاب قيّم على العباد ليسوقهم ويقودهم ويدلّهم على ما يصلحهم ويهيئ لهم كل أسباب السعادة في الدنيا والآخرة كما يفعل القيّم على الأسرة أو على المجتمع، ومنهج القرآن قيّم على جميع المناهج الأخرى سواء على مستوى العقائد أو التشريعات وهو مقدم عليها وقائد لها وهي تابعة وخاضعة ومحكومة له، فالقيمومة العليا في هذه الحياة للقرآن إن أرادت البشرية خيرها وسعادتها لا ما فعلته بالابتعاد عن منهج القرآن وتحكيم عقول البشر القاصرة الخاضعة غالبا لمنطق الأهواء والمصالح وقد مهدت الآية لهذه القيمومة بأن وصفته أنه لاعوج فيه ولا نقص ولا خلل ولا قصور، فقال تعالى:(وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا) (الكهف:1). فمن شروط القيمومة على البشر من يريد تكميل غيره أن يكون كاملاً في نفسه فإن فاقد الشيء لا يعطيه كما قالوا، ومن ضرورة القيمومة على البشر أن يتصدى لها من لا نقص فيه ولا خلل ولا قصور ولم يتحقق ذلك إلا في هذا الكتاب الكريم وعدله الثقل الأصغر أهل بيت النبوة وكل ما سواهم لاحقّ له في إمامة المجتمع والقيمومة عليه، وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة أوجبت تقديم الكتاب والعترة.

(وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فإن لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً) (طه:124)، أي ضيّقة وهذه صفة كل من يعرض عن ذكر الله تبارك وتعالى ويكون مقطوع الصلة به سبحانه ويعيش بعيداً عن القرآن الكريم فإنه يكون في ضيق وتعاسة وألم لأنه انسلخ من رحمة الله الواسعة ووقع فريسة الأهواء والمطامع والشهوات التي لا تقف عند حد فهو في رعب خشية الموت فيخسر الدنيا التي هي همه وما له في الآخرة من نصيب، ويعيش الحرص على ما في يده خشية الفوت، ويعيش التعب لأنه يلهث وراء سراب، فما يحقق شيئا يظن أن فيه سعادته حتى يكتشف أنه متوهم فيسعى إلى غيره، فمثلاً يظن أن سعادته في المال حتى جمع المليارات فما تحققت سعادته، فيظن أنها في الدور الفارهة فيبني منها ما لا عين رأت فلا تحقق سعادته، فيظن أنها في النساء فيستمتع بما شاء منهن ثم يجد نفسه قد وصل إلى طريق مسدود فينطبق عليه قوله تعالى:(فَلَمَّآ رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي)، والقمر كناية عن المال فظن أنه ربه وكافل سعادته (فَلَمَّا أَفَلَ) وفشل في تحقيقها له (قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ)، (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً)، وهي كناية عن أمور دنيوية أخرى (قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ) وهذا الذي يحقق لي السعادة وطمأنينة القلب لأنه (هَذَآ أَكْبَرُ).

وأهم وأعظم تأثيراً (فَلَمَّا أَفَلَ) وفشل هذا الرب الجديد في تحقيق السعادة (قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ) وهؤلاء الأرباب الناقصين الذين لا يملكون لأنفسهم فضلاً عن غيرهم ضراً ولا نفعاً، وعندئذ إن كان مخلصاً في البحث عن الحقيقة كتبت له الهداية وقال مقالة المؤمنين:(قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام:76-79)، وإن لم يكن كذلك كتبت عليه الشقاوة وكان جوابه:(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إذا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ واللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (النور:39).

وهكذا يبقى في شقاء ونكد وضيق بين مطرقة الموت الذي يمكن أن يختطفه في أية لحظة، وسندان الحرص والطمع (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ) (البقرة:96)، وأنت ترى أن أكثر حالات الانتحار هي في الدول المرفهة اقتصادياً والتي تعيش التخمة ومنشأه هذا النكد والفتك الذي يعيشه بسبب الخواء الروحي.

(قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (المائدة:15-16)، فهو نور لأنه يشرق أولاً في قلب المؤمن فيطهّره من أدران المعاصي وكدورات الذنوب ويجلي صفحته ليكون مستعداً لتجليات الحق فيه وهو نور للأمة وللمجتمع يرشدها إلى النظام الذي يكفل سعادتها.

ومن لطيف التعبير القرآني أنه جعل لفظ النور مفرداً والظلمات جمعاً لأن طريق الحق واحد لا يتعدد وإن تعددت سبله ومصاديقه . قال تعالى:(اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ)(الفاتحة:6)، بينما الظلمات عديدة والآلهة التي تصد عن الله تبارك وتعالى كثيرة.

ومن آثار القرآن وبركاته أنه يهدي من اتبع رضوان الله تعالى سبل السـلام وأول سلام ينعم به هو سلام النفس وطمأنينة القلب وصفاء الذهن (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)(الرعد:28)، ثم السلام داخل العائلة والأسرة التي تقوم على أساس الإسلام وتعاليم القرآن (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(الروم:21)، ثم السلام بين أفراد المجتمع عندما تسودهم آداب الإسلام (فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً)(آل عمران:103)،(مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ)(الفتح:29)،(وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)(الحشر:9).

قول ثقيل:

والثقل للمعنى الذي يحمله القول أو اللفظ هو ثقيل على النفس لأنه يمسك بزمام شهواتها فلا يطلق لها العنان وإنما يهذبها ويقومها ويقودها، وهو ثقيل على العقل لما يتضمنه من أسرار ودقائق يصعب تحملها على العقول الجبارة وثقيل على الروح لما فيه من تكاليف شاقة وتربية مكثفة وإليه أشار (صلى الله عليه واله وسلم) شيبتني هود والواقعة لأن فيها فاستقم كما أمرت وهو (صلى الله عليه واله وسلم) يعرف ثقل هذا الأمر.

ومنشأ ثقله صدوره من الله العظيم، لذا تنقل كتب السير حالته (صلى الله عليه واله وسلم) عند نزول الوحي عليه وقد وصف القرآن ثقله بقوله:(لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(الحشر:21).

وهو ثقيل لما يصيب حامله والساعي إلى إقامته في المجتمع من محن وبلايا وصعوبات. قال تعالى:(المص، كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)(الأعراف:1-2) لذلك أمر (صلى الله عليه واله وسلم) بقيام الليل والتعلق بالله تبارك وتعالى وتعميق الصلة به استعداداً لتلقي هذا القول الثقيل والمسؤولية العظيمة وقد وعده تعالى بتحصيل هذه النتائج، قال تعالى:(وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُوداً)(الإسراء:79).

موعظة وشفاء وهدى ورحمة:

واًختصر هنا ما ذكره السيد الطباطبائي (قدس سره) في تفسير الآية([35]):

قال الراغب في المفردات:الوعظ:زجر مقترن بتخويف. وقال الخليل. هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب وشفاء الصدور كناية عن ذهاب ما فيها من الصفات الروحية الخبيثة التي تجلب إلى الإنسان الشقاء وتنغص عيشته السعيدة وتحرمه خير الدنيا والآخرة، وإنما عبر بالصدور لان الناس لما وجدوا القلب في الصدر وهم يرون الإنسان إنما يدرك ما يدرك بقلبه وبه يعقل الأمور ويحب ويبغض ويريد ويكره ويشتاق ويرجو ويتمنى عدّوا الصدر خزانة لما في القلب من أسراره والصفات الروحية التي في باطن الإنسان من فضائل ورذائل.

أقول:وتدل الأحاديث على أن القرآن شفاء حتى من الأمراض البدنية بل في بعضها أن سورة الفاتحة لو قرأت سبعين مرة على ميت فقام حياً لم يكن ذلك عجباً.

والرحمة تأثر خاص في القلب على مشاهدة ضر أو نقص في الغير يبعث الراحم إلى جبر كسره وإتمام نقصه، وإذا نسبت إلى الله سبحانه كان بمعنى النتيجة دون أصل التأثر لتنزهه تعالى عن ذلك فينطبق على مطلق عطيته تعالى وإفاضته الوجود على خلقه.

أقول:هذا أحد الوجوه في شرح هذه الأسماء المباركة التي لا يمكن فهم نسبتها إلى الله تبارك وتعالى كما تنسب إلى المخلوقين.

وإذا أخذت هذه النعوت الأربعة التي عدّها الله سبحانه للقرآن في هذه الآية - أعني انه موعظة وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة -، وقيس بعضها إلى بعض ثم اعتبرت مع القرآن كانت الآية بياناً جامعاً لعامة أثره الطيب الجميل وعمله الزاكي الطاهر الذي يرسمه في نفوس المؤمنين منذ أول ما يقرع أسماعهم إلى آخر ما يتمكن من نفوسهم ويستقر في قلوبهم.

فإنه يدركهم أول ما يدركهم وقد غشيتهم الغفلة وأحاطت بهم لجة الحيرة فأظلمت باطنهم بظلمات الشك والريب وأمرضت قلوبهم بأدواء الرذائل وكل صفة أو حالة رديئة خبيثة فيعظهم([36]) موعظة حسنة ينبههم بهـا مــن رقـدة الغفلـــة،

ويزجرهم عما بهم من سوء السريرة والأعمال السيئة ويبعثهم نحو الخير والسعادة.

ثم يأخذ في تطهير سرهم عن خبائث الصفات ولا يزال يزيل آفات العقول وأمراض القلوب واحداً بعد الآخر حتى يأتي على آخرها.

ثم يدلهم على المعارف الحقة والأخلاق الكريمة والأعمال الصالحة دلالة بلطف يرفعهم درجة بعد درجة وتقريبهم منزلة فمنزلة حتى يستقروا في مستقر المقربين، ويفوزوا فوز المخلصين.

ثم يلبسهم لباس الرحمة وينزلهم دار الكرامة ويقعدهم على أريكة السعادة حتى يلحقهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ويدخلهم في زمرة عباده المقربين في أعلى عليين.

فالقرآن واعظ شافٍ لما في الصدور هاد إلى مستقيم الصراط مفيض للرحمة بإذن الله سبحانه، وإنما يعظ بما فيه ويشفي الصدور ويهدي ويبسط الرحمة بنفسه لا بأمر آخر فإنه السبب الموصل بين الله وبين خلقه فهو موعظة وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين.

الحياة في كنف القرآن:

وقد جرّبتُ الحياة في كنف القرآن ومنَّ الله تعالى عليَّ أن عشت في رعايته منذ ريعان الشباب وكنت أختمه في السنة عشر مرات أو أكثر في بعض السنين حتى خالط لحمي ودمي وفكري ولساني وقلبي وكنت مع تلاوتي له اقرأ في البداية تفسيراً مختصراً وهو تفسير شبّر ثم بدأت أطالع بإمعان في التفاسير المفصّلة كالميزان ومجمع البيان وبعض التفاسير الحركية، فكان لها ولغيرها مما كنت أطالع الفضل في تكوين شخصيتي العلمية والفكرية في وقت مبكر من حياتي –بداية العشرينات من عمري- حتى أكملت بعضها ولخصت رؤوس أفكارها حتى أرجع إليهما باستمرار فتنقدح في ذهني تلك الأفكار وفي روحي وقلبي تلك اللحظات السعيدة.

ما الذي وجدته في رحاب القرآن؟

فماذا وجدت في رحاب القرآن؟ وماذا سيجد من يعيش في رعاية القرآن؟

سيرى عظمة الله سبحانه تتجلى في آياته وقوانينه وسننه وقدرته على كل شيء، فالأرض جمعياً قبضته والسموات مطويات بيمينه والعزة لله جميعاً والقوة والملك له وحده فهو الذي يرث الأرض ومن عليها وإليه مرجع العباد وهو أقرب إليهم من حبل الوريد ويحول بين المرء وقلبه ولا يملك شيء لشيء نفعا ولا ضراً إلا بإذنه، فعندئذ يتصاغر أمام حامل القرآن كل ما سوى الله تبارك وتعالى مهما عظم ظاهرا أو حاول أولياؤه وأتباعه تعظيمه والنفخ في صورته فإذا قدرة الله تلقف ما يأفكون فلا إرم ذات العماد ولا فرعون ذو الأوتاد ولا صاحب الكنوز التي تنوء مفاتيحه بالعصبة أولي القوة، أما حامل القرآن فقوته متصلة بالله فلا يخشى ما سواه (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت:41)، و(من خاف الله أخاف الله منه كل شيء)([37]).

وعندئذ سترى أن هذه القوى الكبرى التي (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى)(طه:66)، وقادرة على تحقيق كل ما تريد، وإذا بها تنهار وتذوب كما يذوب الملح في الماء بلا حرب ولا أي عدو ظاهر لكن الله ينبئك عن الذي يقف وراء فنائهم (فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ)(النحل:26-27).

وسيرى وعد الله وطمأنينته للمؤمنين بأن العاقبة لهم ولكن بعد أن:(مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ)(البقرة:214)، وأن لا بد من الفتنة والابتلاء ليمحص الله الذين آمنوا (ألم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت:1-3). وعندئذ يقر بال المؤمن مهما واجهته من صعوبة ومحنة لأنه من سنة الله في عباده فعليه أن يصدق في المواقف وسيجزي الله الصادقين ويهون الخطب عليه انه كله بعين الله سبحانك قال تعالى:(فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا)(الطور:48)،(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (التوبة:120).

وسيرى من علو الإيمان الذي يعمر قلبه والمعارف العليا التي يحملها إلى هذه البشرية التائهة التي تلهث وراء السراب تعيش لأغراض زائفة وتمني نفسها بأمانٍ باطلة يزينها لهم أولياء الشيطان من مال وجاه وشهوات يتنافسون عليها ويتقاتلون على شيء لا يبقى لهم بل يكون وبالاً عليهم. يصنعون لأنفسهم آلهة يصطلحون على عبادتها وطاعتها وتقديم الولاء لها فيقيمون لها الطقوس والاحتفالات والمهرجانات ويذبحون من أجلها القرابين ليس من الحيوانية فقط بل البشرية ويهدرون على أقدامها المليارات.

وسيرى أنه ليس وحده حتى يشعر بالضعف أو الذلة أو الخضوع والاستسلام ولا أن ما يعانيه ويشاهده ويعيشه بدعاً من الحوادث ولا أن تجربته فريدة (قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُّبِينٌ)(الأحقاف:9)، فإذن قد سبقه على هذا الخط أنبياء عظام وأولياء كرام وحملة رسالات ومصلحون وعباد صالحون عانوا أكثر مما عانى وصبروا على اشد ما صبر عليه وواجهوا من مجتمعاتهم أعظم مما يواجه والصورة نفس الصورة قال تعالى:(فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ)(الحديد:26)،(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ)(المائدة:105).

وسيرى تكريم الله لخلقه حين خاطبهم بنفسه ووجه إليهم كلامه مباشـــرة، الله العظيم خالق السموات والأرض ذو الأسماء الحسنى يرسل إليهم بنفسه رسالة ويعهد إليهم بعهده، أي تكريم أعظم من هذا وأي تفضيل فوق هذا (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)(الإسراء:70) فكيف يا ترى مشاعر الإنسان وهو يقرأ رسالة حبيبه بل الحبيب المطلق (إن القرآن عهد الله إلى خلقه فينبغي لكل مؤمن أن ينظر فيه)([38]).

وسيرى أن كل شيء في هذا الكون بقدر وحساب دقيق، قال تعالى:(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)(القمر:49)، (وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ) (الحجر:21)، (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ)(الأنبياء:47)، وكل المخلوقات أفراداً ومجتمعات تجري وفق سنن ثابتة (سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ)(النساء:26)، (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ)(الأنعام:38) لا يستطيع أحد أن يخرج من هذا القانون الإلهي العظيم (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً)(فاطر:43)، فكيف يعبد الإنسان غيره تبارك وتعالى وهو لا يستطيع أن يخرج من قبضة سننه وقوانينه، فلا مجال للعب ولا العبث واللهو (رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَِ)(آل عمران:191)، (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56)، (لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ)(الأنبياء:17) ولا مجال للصدفة العمياء التي طالما تشدق بها الملحدون وضحكوا بها على عقول الناس ردحا من السنين وأضلوهم بها فتعساً للتابع والمتبوع، فمن وراء خلق الإنسان هدف فلا بد ان يحيا من اجله ويكرس كل طاقاته لتحقيقه وهو رضا الله تبارك وتعالى.

وسيجد في القرآن الوعد الإلهي بالإمداد والقوة الغيبية في كل موقف وشدة ومأزق ومعركة مع النفس الأمارة بالسوء أو الشيطان، وأن الله معه وكفى به ناصراً ما دام هو مع الله قال تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ، نُزُلا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ، وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(فصلت:30 - 33) وآيات كثيرة تخبر عن إنزال السكينة في قلوب المؤمنين والإمداد بالملائكة المسومين وغيرها.

وسيجد في كنف القرآن الطمأنينة قال تعالى:(أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)( الرعد:28)، وهدوء البال وشفاء الصدور والهدى والبركة وكل خير مما وصف القرآن به نفسه.

فإذا وجد حامل القرآن كل ذلك اشتدت عزيمته وقوي قلبه وصلحت نفسه وازدادت همته وظهرت حكمته وسيكون عندئذ مصدراً للعطاء ومنبعاً للخير لنفسه وللمجتمع كما هو شأن المصلحين العظام وعلى رأسهم رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) .

ضرورة العودة إلـى القرآن:

أفبعد كل هذا نحتاج إلى ذكر المزيد من المحفزات للعودة إلى القرآن والحياة في كنفه وهل بقى من لا يعي فداحة الخسارة التي حلت بنا بسبب ابتعادنا عن القرآن. إذن فلنرجع جميعاً إلى القرآن تائبين نادمين ملتمسين إياه أن يعود إلى إمامتنا وهدايتنا إلى الله تبارك وتعالى وعلينا أن نفكر في سبيل إلى إخراج هذا الكتاب الكريم من عزلته التي فرضناها نحن عليه وتفعيل دوره في الحياة المجتمع.

وقد تقول:إن مثل هذا حاصل من خلال ما نشاهده من كثرة حلقات تعليم القرآن وحفظه وتجويده وبيان قواعده ورسمه .

وأقول:مع احترامي لهذا كله إلا أن هذا اهتمام بالقشور والمهم هو اللب فإن اللفظ وعاء لإيصال المعنى وقشر لحفظ المعنى الذي هو اللب وآلة لنقل المعنى إلى الذهن فهل يكفي الاهتمام بالقشر وترك اللب؟ فالمطلوب هو إعادة القرآن بروحه ومضامينه ومعانيه وأفكاره ومفاهيمه، ولا شك أن الخطوة الأولى منه هي الاهتمام بتلاوته ومعرفة معاني ألفاظه وتطبيق القواعد العربية على مخارج حروفه.

مسؤولية الحوزة في إعادة القرآن:

وأعتقد أن أول شريحة في المجتمع تقع عليها المسؤولية هي الحوزة الشريفة بطلبتها وفضلائها وخطبائها وعلمائها لأن صلاح المجتمع من صلاح الحوزة وفساده بفسادها والعياذ بالله، فقد جاء في الحديث الشريف عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم):(صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمتي، قيل يا رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) ومن هم؟ قال (صلى الله عليه واله وسلم):الفقهاء والأمراء)([39]).

وقد قلت في بعض كتبي([40]) أنه من المؤسف حقاً غياب القرآن عن مناهج الدراسة الحوزوية، فقد نظمت بشكل لا يحتاج فيه الطالب إلى التعمق في القرآن الكريم من أول تحصيله إلى نهايته ولا يمر به إلا لماماً عند الاستدلال على قاعدة نحوية أو مبحث أصولي أو مسألة فقهية، فأصبح مسرحاً للتدقيقات العقلية ولم يتخذ غذاءً للقلب والروح ودواءً للنفس، وربما يبلغ الحوزوي مرتبة عالية في الفقه والأصول وهو لم يحيَ حياة القرآن ولم يخُض تجربة التفاعل مع القرآن واستيعابه كرسالة إصلاح، وقد تمر الأيام والأسابيع ولا تجد طالب العلم يمسك المصحف الشريف ليتلو آياته ويتدبر فيها لعدم وجود صلة روحية عميقة بينه وبين القرآن، ولو وجد فيه زاده وغذاءه الذي يغنيه عن غيره لما استطاع تركه، وهذه مصيبة عظيمة للحوزة والمجتمع، وربما لا يحسن بعضهم قراءته مضبوطةً بالشكل.

ولما كانت رسالة الحوزة الشريفة التي تصدت لحملها هي إصلاح المجتمع وتقريبه إلى الله تبارك وتعالى فإن أول مهمة لهم هي فهم القرآن والسعي إلى تطبيقه فإن الأمة لا تكون بخير إلا إذا تمسكت بقرآنها واهتدت بهديه واستضاءت بنوره كما هو نص حديث الثقلين المشهور:(إني تارك فيكم الثقليــن كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً)([41]).

جاهلية اليوم:

إن البشرية تعيش اليوم جاهلية جديدة - وإن تسمى بعضهم بالإسلام - بحسب المفهوم الذي يعطيه القرآن للجاهلية، إذ أنه لا يعتبرها فترة زمنية انتهت بطلوع شمس الإسلام بل هي حالة اجتماعية تتردى إليها الأمة وينتكس إليها المجتمع كلما أعرض عن شريعة الله سبحانه (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:50)، وقد نبه القرآن الكريم إلى حصولها حينما قال:(وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى) (الأحزاب:33) وكأنه إشعار بوجود جاهلية ثانية وهي هذه التي تعيش البشرية اليوم شؤمها وتعاستها وشقاءها.

بل جمعت جاهلية اليوم مساوئ الجاهليات القديمة كلها فالقوي يأكل الضعيف، واللواط يسن بقانون رسمي يجيزه ويرتضي الزواج بين الذكرين، والزنا يفوح برائحته الكريهة وهمجيته الحيوانية وأمراضه الفتاكة كالأيدز ونحوه في كل أرجاء العالم، والبخس في الميزان منتشر بجميع أشكاله ليس على مستوى الأفراد فقط بل على مستوى الدول فلا يوجد إنصاف في العلاقات بين المجتمعات البشرية وهو ما يسمى بالمصطلح (الكيل بمكيالين)، واتخاذ الأحبار والرهبان وسائر رؤوس الضلال من شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً أرباباً من دون الله يحرّمون ما أحل ويحلون ما حرم، والآلهة التي تعبد من دون الله سبحانه قد تعددت ولم تعد مقتصرة على الحجرية منها فقط، بل ما زالت الذهنيات الشيطانية تتفتق عن المزيد وشياطين الأنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ويصدون عن صراط الله المستقيم (لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) (الأعراف:16-17)،(وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً)(الأعراف:86)، وما أكثر هؤلاء الذين يصدون عن سبيل الله من آمن ويبغونها عوجا عن الفطرة السليمة من فاسقات نصبن فخوخ الفتنة والإغراء، إلى بورصات اقتصادية يسيل لها اللعاب، إلى فنانين لا عمل لهم إلا تدمير الأخلاق والقيم الاجتماعية وغيرها.

كل هذه من صفات وعلامات جاهلية اليوم وفي كل زمان ومكان، وهذا المفهوم من المفاهيم القرآنية التي يجب استيعابها وفهمها.

مقارنة بين الجاهلية الأولى والجاهلية اليوم:

ولمزيد من البيان نعقد مقارنة بين عقائد وممارسات الجاهلية الأولى والجاهلية التي نعيشها اليوم، وأريد بهذا البيان عدة أهداف:

1-    تنقيح المفاهيم والمصطلحات القرآنية واستنباط معانيها التي يريدها القرآن وإزالة الغبار المتراكم عليها نتيجة الغفلة عن القرآن، وإعمال العقول فيه من دون الرجوع إليه.

2-    استيعاب الحاجة إلى القرآن إذا فهمنا أن البشريـــة عـــادت إلـــى

جاهليتها الأولى فهي بحاجة إلى أن يعود القرآن ليمارس دوره من جديد في الأخذ بيدها نحو الإسلام الحقيقي.

3-    تعزيز فكرة الإمام المهدي (أرواحنا له الفداء) وإقامة الدليل العلمي عليها إذ أن البشرية لما عادت إلى جاهليتها الأولى فإن القرآن وحده لا يكفي لممارسة دوره في إنقاذها بل لابد له من حامل يجسده على أرض الواقع كما رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وإن لم يكن نبياً لانقطاع النبوة به (صلى الله عليه واله وسلم) ولا تجتمع هذه الأوصاف إلاّ في الحجة بن الحسن (أرواحنا له الفداء)، وها هي إرهاصات ظهوره تتحقق ويقترب يومه الموعود([42]). وتفصيل الكلام في بحث خاص([43]) به (عليه السلام) .

صفات ومميزات المجتمع الجاهلي بحسب المفهوم القرآني:

وأول صفة من صفات الجاهلية هي عبادة الناس لغير الله تبارك وتعالى والعبادة بمعنى الطاعة والولاء كما ورد عنهم (عليهم السلام) في تفسير قوله تعالى:(اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة:31) قال (عليه السلام):(أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، ولو دعوهم ما أجابوهم، ولكن أحلوا لهم حراما، وحرموا عليهم حلالا فعبدوهم من حيث لا يشعرون)([44]) هذه العبادة كانت في ذلك المجتمع الجاهلي لغير الله تبارك وتعالى لذا جاء في أول سورة من سور القرآن المطالبة بعدم طاعة ما سوى الله (كَلا لا تُطِعْهُ) (العلق:19)، فكانت الطاعة لآلهة متعددة يومئذ:(مَا نَعْبُدُهُمْ - أي الأصنام - إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)(الزمر:3)، (وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ) (آل عمران:64)، (إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا) (الأحزاب:67)، (فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) (هود:97)،(فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً)(مريم:59)، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ)(البقرة:170)، (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ، كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاهُ فإنه يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ)(الحج:3-4)،

(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ)(الفتح:26).

هذه بعض آلهة الجاهلية الأولى التي كانت تعبد من دون الله تبارك وتعالى وهي (الأصنام، العلماء غير المخلصين، الفراعنة، هوى النفس الأمّارة بالسوء وشهواتها، إبليس، العصبية، العادات والتقاليد الموروثة عن السلف) وأصلها اتباع الهوى (فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(القصص:50).

فهل اختلف حال الناس اليوم؟ ولا أريد بالناس هذه الأمم التي تسمي أنفسها متحضرة فإنها غارقة في مستنقع الجاهلية من قرنها إلى أخمص قدميها، ولكن هلم بنا إلى الخطب الأفضع إلى الذين يسمون أنفسهم مسلمين وهم يسيرون في ركاب أولئك الكفار وينغمسون في طاعة الشهوات والهوى وما يصدرون إليه من آلهة جديدة كالرياضة والفن وبعض النظريات والقوانين المنحرفة، وما زالت طاعة السادة والكبراء كرئيس العشيرة والوجهاء تمتثل من دون رعاية للشرع المقدس فيحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله تبارك وتعالى، وما زالت الأعراف والتقاليد وسنن الآباء والأجداد تطاع أكثر من شريعة الله سبحانه بحيث يرضى المجتمع بمعصية الله ولا يرضى بالخروج عن هذه الأعراف والتقاليد، ولسان حالهم يقول:( النار ولا العار ) خلافا للإسلام الذي مثله الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء بقوله:

الموت أولى من ركوب العار        والعار أولى من دخول النار([45])

وهذا واضح في السنينة العشائرية وغيرها، وهذه المرأة المسكينة تطيع المودة ودور الأزياء وما يقتضيه الأتيكت وما يصدره الغرب من ملابس وأدوات زينة وكماليات حتى لو كانت مخالفة للشريعة فهل. بقى من العبادة والطاعة والولاء شيء؟ هذا على مستوى الشرك الجلي، والقرآن يخبرنا أن هذه الآلهة كلها ستتبرأ من عبادها يوم القيامة ولا ينفع الندم حينئذ:(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ، إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ، وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ)(البقرة:165-166).

ويصف هذه الآلهة التي يعبدها البشر بتقديم الولاء والطاعة لهم من دون الله تبارك وتعالى قال تعالى:(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)(العنكبوت:41)، وقال تعالى:(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَـرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ)(النور:39).

وهذا بحث جدير بالاهتمام لأنه يلفت نظر الناس إلى انحراف عقائدهم وأنهم بعيدون عن التوحيد الخالص وأن طاعتهم لله تبارك وتعالى اقل بكثير من طاعتهم لهذه الأصنام المتعددة. وليكن البحث بعنوان (أصنام الجاهلية الحديثة) التي يزيدها خطورة خفاؤها وعدم الالتفات إليها حتى للمؤمنين فضلاً عن غيرهم.

أما على مستوى الشرك الخفي فالمصيبة أعظم، وقلما تجد عملاً مخلصاً وإن ظن صاحبه ذلك، فلماذا يكتب اسمه على لوحة كبيرة عندما يشيد مسجداً لو كان عمله لله ولماذا يمنّ بعطائه ويتحدث به لو كان مخلصاً؟

والصفة الثانية من صفات الجاهلية هي أن الشريعة التي تنظم أمورهم وتنظر في خصوماتهم بعيدة عن شريعة الله سبحانه (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) (المائدة:50)، وعن الصادق (عليه السلام):(الحكم حكمان حكم الله وحكم الجاهلية فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم الجاهلية)([46]). فكل حكم بغير ما أنزل الله هو حكم جاهلية على تعبير القرآن، ونحن نرى أن أكثر أفراد مجتمعنا منضوون تحت عشائر تحكمها سُنن عشائرية ما أنزل الله بها من سلطان وضعها ناس جهلة بعيدون عن الله تبارك وتعالى، وهذا كمثال ويمكن أن تضرب بطرفك في شرائح اجتماعية أخرى لترى مصداق ذلك، وها أنت ترى أن دول العالم المختلفة تتحكم فيها قوانين وتشريعات و(آيديولوجيات) من صنع البشر الناقص الذي لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا يرى أبعد من أرنبة أنفه، فتراه كل يوم يغير مادة ويضيف فقرة ويلغي أخرى ويكتشف خطأ غيرها فيرتق ما فتق، وهكذا وقد وصف الحديث الشريف كل مخالفة للشريعة وتقصير في تطبيقهـا جاهليــة نحــو

قوله (عليه السلام):(من مات ولم يوص مات ميتة جاهلية)([47]).

ففرعون الذي يقول:(مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى)(غافر:29)، ليس حالة خاصة فردية بل هي متكررة دائماً عند الكثيرين ممن ينصبون أنفسهم مشرعين من دون الله تبارك وتعالى.

ومن سمات الجاهلية انحراف عقائدها وإليها أُشير بقوله تعالى:(يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ)(آل عمران:154)، فقد كانوا يعتقدون مثلاً أنه مهما ارتكب الإنسان من موبقات فإنه ينجو من العقاب إذا قرب إلى الآلهة قرباناً، ومجتمعنا بفعل ما رسخه خطباء المنبر الحسيني في أذهانهم يعتقدون أنه مهما فعل من منكرات وكبائر فإن دمعة واحدة على الحسين (عليه السلام) تكفيه لدخول الجنة، انطلاقاً من الحديث الشريف:(من بكى على الحسين ولو مقدار جناح بعوضة وجبت له الجنة)([48])، واستدلوا بقول الشاعر:  

فإنَّ النار ليس تمس جسماً           عليه غبار زوار الحسينِ([49])

ونحن لا ننكر كرامة الحسين (عليه السلام) على الله تبارك وتعالى فهو يستحق هذا التكريم وأزيد:لكن هذا على نحو المقتضي وجزء العلة لدخول الجنة ولا بد من تمامه من جزء العلة الأخرى من الشروط وعدم الموانع وأول الشروط طاعة الله تعالى في أوامره ونواهيه وهذا القرآن صريح:(وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى)(الأنبياء:28)، وفي حديث الإمام الصادق (عليه السلام):(لن تنال شفاعتنا مستخفاً بالصلاة)([50])، ومنافٍ للآية الشريفة:(فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ)(الزلزلة:7-8)، إلا أن يتدارك عمله بالتوبة الصادقة.

وهذا الانحراف في الاعتقاد له أثره الخطير في ابتعاد الناس عن الدين وقلة وعيهم بعد أن خدروا بهذه العقيدة البعيدة عن القرآن وركونهم إليها فتركوا العمل بالقرآن.

ومن معالم الجاهلية السفور والتبرج وإظهار المفاتن والتهتك وشيوع الفاحشة، قال تعالى:(وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى)(الأحزاب:33)، والمجتمع اليوم قد فاق تلك الأمم بفسقه وفجوره وتفننه في الغواية والإضلال وإيقاع البشر في الفاحشة وتسخر كل إمكانياتها المتطورة لترويجها، وكما كانت الجاهلية تبتكر الأساليب وتضع قوانين لإشباع غريزتها الجنسية بطرق شيطانية، فمثلا سنّت قريش قراراً يقتضي حرمة طواف الطائف بالبيت بثيابه لأنه قد عصى الله بها وارتكب المآثم فيها فلا بد أن يطوف بملابس من آهل مكة أو جديدة أو يطوف عارياً.

وأولياء الشيطان اليوم سنّوا أساليب لإشاعة الفاحشة غير ملاهي الفسق والفجور باسم الرياضة مثلاً التي لا تقل تهتكاً عما يجري في تلك الملاهي بل الملاهي أرحم لأنها في الخفاء ويستهجنها الجميع ويستحيي صاحبها أن يلصق به عارها، أما هذه فتمارس علناً ويفتخر بها صاحبها ويبارك عمله الجميع. أترى أي ألعوبة أصبح هؤلاء بيد الشيطان يتصرف بهم كيف يشاء. وهكذا العناوين والأسماء الأخرى كملكة الجمال أو باسم عرض الأزياء أو باسم الفن وكلها استهتار ومجون وفسق وفجور ولكن بغطاء مقبول لدى المجتمع لا ينجو منه إلا من عصم الله، والهدف واحد هو أن تعيش البشرية همجية الحيوان وفوضى الجنس ونار الشهوة المستعرة التي لا تبقي ولا تذر.

ومن سمات الجاهلية فساد التصورات وانحراف الرؤية للحياة فمثلاً كان بعض الجاهليين يرفضون تزويج بناتهم من غيرهم لأنهم يرون أنفسهم فوق الآخرين وهم ما يسمون بــ(الحُمُس)، وفي جاهلية اليوم توجد شرائح كثيرة كذلك ولعل أوضح مصاديقها بعض السادة المنتسبين لرسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) فإنهم لا يزوجون نساءَهم إلا لسيد مثلهم وقد تعنس بناتهم ويفوتهنّ الزواج ويحرمنَ من ممارسة حق مشروع لهنّ في التنعم بتكوين أسرة وليعشنَ سعادة الأمومة. كل ذلك بسبب هذا التصور الخاطئ الجاهلي فأين هذه التصورات من مبادئ القرآن:(خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء)(النساء:1)، ومن تعاليم رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم):(إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه)([51])، وإذا كان لهم شرف بانتسابهم لرسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) فإن شرف رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) بانتسابه للإسلام ولطاعة الله تعالى، وليس لأنه محمد بن عبد الله قال تعالى:(لَئِنْ أَشرَكتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الزمر:65)، (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ، لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ)(الحاقة:44 - 47)، ويقول هو (صلى الله عليه واله وسلم):(ولو عصيت لهويتُ)([52]) فما قيمة هؤلاء الذين يتاجرون باسمه (صلى الله عليه واله وسلم) وهم يخالفون شريعته؟

ومن معالمها اختلاف القيم والموازين التي يتفاضل بها البشر من إلهية حقيقية إلى شيطانية وهمية، فالقرآن يصرح:(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)(الحجرات:13)،(قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ)(يونس:58) بينما الجاهلية تتفاضل بالمال والجاه وكثرة الولد(أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ)(التكاثر:1-2 (وَقَالُوا نَحْنُ أكثر أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)(سبأ:35)، وهذه الأمور من الوضوح بحيث لا أحتاج إلى ذكر أمثلة، والآيتان التاليتان توضحان هذه المقارنة الصارخة بين المقاييس:(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ، قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)(آل عمران:14 - 15). ويقول تعالى:(وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ) (سبأ:37).

ومن الخصائص المشتـركة للجاهليتيــن انتشـار الرذائـل الخلقيـة وأوضحها شرب الخمر والتطفيف في الميزان والغش والكذب واللواط قال تعالى:(وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ)(العنكبوت:29)،(وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ) (الأعراف:85)،(وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إذا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِـرُونَ)(المطففين:1-3)، بل يستهزئون من الإنسان النظيف (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ)(الأعراف:82)، بحيث أن جعفر بن أبي طالب سجل اسمه في التأريخ على أنه ممن حرَّم على نفسه الخمر والزنا في الجاهلية([53])، ومن رذائل أخلاقهم أن القوي يأكل الضعيف وانعدام الأخلاق والمثل الإنسانية فضلاً عن الإلهية والمهم هو المنافع الشخصية. وها هي حضارة اليوم تسحق شعوباً بكاملها وتهلك الحرث والنسل من أجل ما يسمونه (المصالح) التي هي فوق كل شيء عندهم، أما الهدف الحقيقي وهو رضا الله تبارك وتعالى والفوز في الآخرة فهذا تخلف ورجعية، قال تعالى:(وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) (آل عمران:154)، فهذه غايتهم وهذا هو هدفهم الذي يعيشون من اجله هل لنا من الأمر من شيء.

ومن أهم خصائص الجاهلية بل هي السبب في تحققها ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذا الذي حذر منه رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم):(كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟ فقيل له:ويكون ذلك يا رسول الله؟ فقال:نعم، وشر من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ فقيل له يا رسول الله ويكون ذلك؟ فقال (صلى الله عليه واله وسلم):وشر من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً)([54]).

وهذا ما وصلت إليه المجتمعات اليوم والتقصير أول ما يبدأ من علماء الدين أو الربانيين على تعبير القرآن وتخاذلهم وتقاعسهم عن أداء وظيفتهم، وأوضح مصداق للربانيين هم انتم يا طلبة وفضلاء الحوزة الشريفة. قال تعالى:(وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ، لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) (المائدة:62 - 63)،(كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ، تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ)(المائدة:79-80).

وهذه خصيصة أخرى من خصائص المجتمع البعيد عن الإسلام وهي موالاة ومداهنة الفاسقين والذين كفروا، وعن هذا التقصير يقول أمير المؤمنين (عليه السلام):(أما بعد فإنه إنما هلك من كان قبلكم حيثما عملوا من المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار عن ذلك، وأنهم لما تمادوا في المعاصي نزلت بهم العقوبات فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لن يقربا أجلاً ولن يقطعا رزقاً)([55]).

وبدون القيام بهذه الفريضة لا تبقى للمؤمنيـن قيمـــة لا عنــد الله ولا عــند

رسوله بل ولا حتى عند أعدائهم، لذلك كان هناك موحدون بين قريش وهم الأحناف الذين نبذوا عبادة الأصنام وتفرغوا لعبادة الله سبحانه، لكن لم تكن لهم قيمة عند المشركين ولم يأبهوا بوجودهم لأنهم تركوا هذه الفريضة العظيمة.

بينما جعل القيام بهذه الوظيفة من صفات المجتمع المسلم بحق:(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ)(آل عمران:110)،(وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُـرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج:40 - 41)،(وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) (آل عمران:104)،(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(التوبة:71)، وغيرهم كثير ولسنا هنا بصدد الاستقصاء فإن هذا البحث مبني على الإشارات فقط ومجرد فتح الباب للتفكير في هذه القضايا وكل باب ينفتح منه ألف باب بلطف الله تبارك وتعالى وسعة رحمته.

ومن معالم الجاهلية سيطرة الخرافات والأساطير، فمثلاً كانت العرب تتشاءم من صوت الغراب والبوم، والغرب اليوم يتشاءم بلا معنى من رقم (13) وانتشر يومئذ العرّافون والكهنة وراجت سوقهم، واليوم نرى إقبال الناس على قارئي الكف والرمل والأبراج والطريحة وأصحاب النور والمطوعات ونظائرها مما ينطلي على الجهلة والسذج.

ومن سمات الجاهلية الصد عن القرآن وعزل الناس عنه بشتى الطرق فقد كان النضر بن الحارث وهو ممن ذهب إلى بلاد فارس وتعلم من أخبار ملوكهم يتعقب رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) فإذا قام (صلى الله عليه واله وسلم) من مجلس جلس إليهم النضر وتحدث لهم بتلك القصص والأخبار ثم يقول:بالله أيّنا أحسن حديثاً قصصاً أنا أو محمد؟([56]) وكانوا يصفون القرآن بأنه أساطير الأولين أو أحاديث اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً أو حديث يفترى، أو يصفقون بصوت عال عند تلاوته (صلى الله عليه واله وسلم) للقرآن ليحولوا دون سماعه، ويصف القرآن موقفهم هذا بقوله:(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)(فصلت:26)، وقال تعالى:(وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ)(القمر:2)، وها هي جاهلية اليوم تصف القرآن نفس الأوصاف بأنه من كلام محمد وقد أنشأه وفق البيئة التي عاشها، وانه يمثل نبوغاً إنسانياً وليس وحياً إلهياً، وحاولوا التأليف في متناقضات القرآن ولكنهم لما عجزوا واكتسحهم القرآن وفرض وجوده عليهم عمدوا - بما أوتوا من خبث ومكر وخداع - إلى تفريغه من مضمونه وعزله عملياً عن واقع الحياة وحوّلوه إلى ما يشبه الأناشيد والأغاني التي يترنم بها المطربون ويعبر الجالسون عن طربهم بصيحات (الله الله يا شيخ) وحوّلوه إلى تعويذات يُعلقَّها على صدورهم أو في بيوتهم لا أزيد من ذلك. وهذا الأسلوب كما ترى أخطر من أسلوب النضر بن الحارث وأمثاله وأشد مكراً وأفتك أثراً.

ومن التصرفات البارزة التي يتصف بها الجاهليون:هي الجمود على التقاليد الموروثة عن السلف والتزمت في الالتزام بها وعدم الخروج عنها وإن قام الدليل والحجة على خلافها، وهذا التصرف نتيجة التحجر وعدم السلامة في التفكير وتحكيم العاطفة باعتبار أن الشيء الذي تتوالى عليه أجيال من الآباء والأجداد يكتسب قداسة يصعب اختراقها. وقد كرر القرآن هذا المعنى كثيراً بحيث نستطيع أن نفهم منه أن هذه كانت من المحن التي اشترك فيها جميع الأنبياء. قال تعالى:(وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ) (البقرة:170)،(إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ، فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ) (الصافات:69 - 70)، (قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (الأعراف:70)، (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ، وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ، قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ) (الزخرف:22-24)، فالآيتان الأخيرتان تدلان على أن هذه المحنة الكبيرة تواجه كل من يريد أن يحرر مجتمعه ويسعى لإصلاحه، لقوله تعالى:(وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِك)(الزخرف:22-24)، وليست مختصة بالأنبياء وحدهم.

وجاهلية اليوم لا تختلف عن الجاهلية الأولى في ذلك، والشواهد عليها كثيرة وقد عانت مجتمعاتنا كثيراً من هذه (النزعة الاستصحابية) على تعبيـر أحـــد المفكرين الحوزويين([57]).

ومن علامات الجاهلية عدم معرفة الإمام الحقيقي (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية)([58]) ولا يراد بالمعرفة معرفة الاسم فقط بل معرفة المسؤولية الكاملة والتكليف التام تجاه الإمام والقيام بها حق القيام وهذا التقصير واضح منا تجاه صاحب العصر (أروحنا له الفداء) وقد وصف الدعاء المأثور هذه الجاهلية (اللهم عرفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيك اللهم عرفني رسولك فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك اللهم عرّفني حجّتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني)([59]) والضلال عن الدين هو عين الجاهلية.

وهذا ما يحتاج إلى بحث كامل عن لزوم وجود الإمام والحجة في كل زمان وتكليفنا في زمان الغيبة ومسؤوليتنا تجاه الإمام (عليه السلام) والإجابة عن الكثير من التساؤلات والمشاكل الفكرية التي تحاط بها قضية الإمام (عليه السلام) مما هو غائب عن ذهن المؤمنين به فضلاً عن غير المؤمنين به أصلاً، بينما هم (عليهم السلام) (باب الله الذي لا يؤتى إلا منه)([60]) فكيف يهتدي إلى الله سبحانه من لا يعرف بابه فماذا بعد الله إلا الضلال المبين.

ومن سماتها الخضوع للماديات وعدم الاعتراف بما وراء المادة وإنكار الغيب قال تعالى:(وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) (الأنعام:29)، (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ)(الجاثية:24)، فيأتي القرآن ليؤسس لهم أهدافاً سامية يعيشون من أجلها (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56)، (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ) (هود:61)، (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (يونس:14)، فالإنسان ما خلق فقط لهذه الدنيا حتى يكرس همه لها بل جعل في الأرض خليفة ليستعمرها ويجعلها حرثاً لآخرته وخالقه يحصى عليه أعماله لينظر كيف يعمل، ويأتي التوبيخ الإلهي لمثل هذا الإنسان الغارق في الماديات (أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدىً، أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى، ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى، أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى)(القيامة:36-40)، بلى سبحانك اللهم أنت قادر على ذلك وعلى كل شيء، نعم، لكن هذا لا يمنع من أن يأخذ نصيبه من الدنيا من دون أن يجعله هدفا وغاية وإنما يوظفه لخدمة الهدف الحقيقي وهو رضا الله تبارك وتعالى:(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)(القصص:77)، فليس النقص والخلل في حيازة الدنيا لذا قيل:(الدنيا مزرعة الآخرة)([61]) وفي حديث آخر:(الدنيا متجر أولياء الله)([62]) ففيها يتاجرون مع الله تجارة لن تبور.

ومن سمات الجاهلية التشتت والتفرق والتمزق، قال تعالى:(وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)(الروم:31-32)، وكل ذلك بسبب تضييعهم للمحور الواحد الذي يجب أن يجتمعوا حوله وهو توحيد الله تبارك وتعالى، وجعلت الكعبة المشرفة رمزاً له، لكن المجتمع البعيد عن الله يتمزق دولاً وبلداناً أولاً، حتى وصل عدد دول العالم اليوم أزيد من (180) دولة ويتمزق أجناساً ويتفرق قوميات حتى داخل البلد الواحد ويتمزق فكرياً فهذا شيوعي وهذا رأسمالي وهم أبناء بلد واحد وقومية واحدة ودين واحد ويتمزقون آيديولوجيا حتى داخل الدين الواحد بل داخل المذهب الواحد وكل طائفة تنقسم على نفسها فرقاً وهكذا:(كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)(المؤمنون:53)، وقد نبه القرآن إلى أن هذا التفرق هو إحدى عقوبات الابتعاد عن المنهج الإلهي:قال تعالى:(قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) (الأنعام:65)، وجاء الإسلام ليوحدهم بهذا القرآن قال تعالى:(وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(آل عمران:103)، (وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فإن حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال:62-63).

ومن سمات الجاهلية الواضحة الرعب من الموت ومن كل ما يوحي به أو يشير إليه وذلك لأنهم خسروا الآخرة وجعلوا غاية همهم إشباع شهواتهم وأطماعهم (قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ، وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) (البقرة:94-96)، (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)(الجمعة:6-7)،(فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ)(الأحزاب:19)، لكن القرآن يقرر لهم حقيقة دامغة لا مفر منها (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فإنه مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (الجمعة:8)،(قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلاً) (الأحزاب:16)،(أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ) (النساء:78)، (قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) (215)، فالخوف من الموت لا يكون إلا بالاستعداد له بالإيمان والعمل الصالح وإعمار الآخرة بما يرضي الله تبارك وتعالى ويقرب منه.

واشعر أنني إلى هنا قد قدّمت إشارة كافية وفتحت باب التفكير بمقدار كافٍ في هذا الاتجاه لأن أهم خطوة في معالجة أمراضنا الاجتماعية هي تشخيص الداء بدقة ومن ثم وصف العلاج المناسب.

واتضح لدينا الآن من خلال هذه النقاط العديدة تحقق عنوان الجاهلية في البشرية اليوم وعلمنا أن لطف الله بعباده دائم ولا يختص بقوم دون قوم، فجاهلية الأمس ليست أولى من جاهلية اليوم ولا خصوصية لها حتى ينزل إليها تبارك وتعالى قرآناً ويبعث إليهم رسولاً، ويترك جاهلية اليوم سدىً، فما أحوجها إلى مصلح وهو الحجة بن الحسن (أرواحنا له الفداء) وما أحوجنا إلى القرآن لينقذنا من حضيض الجاهلية إلى قمة الإسلام.

القرآن علاج لأمراضنا الاجتماعية:

فلنكرّس جهدنا في الاستفادة من قابلية القرآن وقدرته على علاج أمراض البشرية والارتقاء بها في سلم الكمال، فإن القرآن خالد وحي ومعطاء إلى يوم القيامة ومن خلوده قدرته على تشخيص الداء وتقديم الدواء لكل مجتمع وكل زمان ومكان وما علينا إلا أن نستثير كوامن القرآن ونلتمس منه دواء دائنا وأمراضنا الاجتماعية والفردية.

فإذا أصيبت الأمة بالتمزق والتشتت فدواءهم قوله تعالى:(وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ)(آل عمران:103)، بعد معرفة أن حبل الله هما القرآن وأهل البيت (عليهم السلام) بحسب الحديث الشريف.

وإذا أصيبت الأمة بالجبن والخور فعلاجهم قوله تعالى:(أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ) (النساء:78)،(قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فإنه مُلاقِيكُمْ)(الجمعة:8).

وإذا مر المجتمع ببلايا ومصاعب ومحن فشفاؤهم في قوله تعالى:(أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ)(البقرة:214).

وإذا شعروا بالإحباط واليأس فعلاجهم قوله تعالى:(وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف:87)، (وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ) (الحجر:56)، (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ)(غافر:51).

وإذا ألقينا مسؤولية الانحراف والظلم على غيرنا أو على الزمن فلنقرأ قوله تعالى:(وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ)(النساء:79) (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(الرعد:11)، (وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(آل عمران:117).

وإذا انصاع الناس وراء الكثرة الكاثرة ولسان حالهم (حشر مع الناس عيد) بلا تعقل وروية وبصيرة، أجابهم القرآن:(وَمَا أكثر النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (يوسف:103)،(وَإِن تُطِعْ أكثر مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ)(الأنعام:116) (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ) (يوسف:106).

ومن الأمراض الاجتماعية التي عالجها القرآن (الإشاعة)([63]) وهو داء فتاك يفرق المجتمع ويزلزل كيانه ويبلبل، أفكاره فقال فيها وفي علاجها:(وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) (النساء:83)، وغيرها الكثير مما يعالج عللنا المزمنة.

دروس مستفادة من طريقة القرآن في إصلاح المجتمع:

وهنا ينبغي الإشارة إلى بعض الدروس المستفادة من طريقة القرآن في إصلاح المجتمع وهدايته:

1-    الالتفات إلى جانب العلل أكثر من المعلولات عند معالجة حالة معينة وهو شيء مهم وضروري، فعندما يراجع المريض طبيبا ويشرح له الأعراض التي يعاني منها فإن أهم ما يقوم به الطبيب تشخيص العلة وتعيين العلاج لها، أما الاكتفاء بمعالجة الأعراض المرضية كوجع الرأس وألم البطن أو ارتفاع درجة الحرارة من دون أن يشخص العلة فهذا من خطل التفكير، فمثلا إن من يريد أن يعالج ظاهرة التبرّج، أو ميوعة الشباب وتقليدهم للغرب، أو امتناع الناس عن دفع الخمس أو أداء الصلاة، أو ارتكابهم للفواحش كشرب الخمر واللواط، أو قل:عموم ابتعاد الناس عن تطبيق شريعة الله وتعمدهم مخالفتها لا يكتفي بأن يقول لهم هذا واجب فافعلوه وهذا حرام فاتركوه لأنهم مسلمون ويعرفون ذلك، فلا بد من تشخيص العلة لضعف الوازع الديني عندهم الذي هو الدافع للتطبيق ومن ثم علاجه، وضعف الوازع الديني إنما منشأه ضعف الجانب الأخلاقي والعقائدي لدى المجتمع، لذا ركز القرآن في مكة - أي في أوائل نزوله - على هذين الجانبين. بما طرح من عقائد ودافع عنها بالأدلة المختلفة ورد الإشكالات الموجهة إليها، وغالبا ما كان يثير كوامن فطرتهم لأنه دليل وجداني مرتكز في باطن كل إنسان ولا يستطيع أحد إنكاره والتنصل منه، واهتم بعرض مشاهد يوم القيامة وسنن الله في الأمم السالفة وعرض الكثير من مواقف العظة والعبرة حتى أيقظ عقولهم وطهر قلوبهم وعندئذ كلفهم بالأحكام فاستجابوا لها طواعية، ونحن نعلم ان فترة التربية في مكة كانت أكثر منها في المدينة ومن هذا يعلم الاهتمام المتزايد بجانب العلل أكثر من المعلولات.

2-    ومن هنا ينفتح الكلام عن الدرس الثاني المستفاد من طريقة القرآن في إصلاح النفس والمجتمع وهي ضرورة بناء الجانب الأخلاقي والعقائدي لشخصية المسلم، وقد اعتمد القرآن في هذا البناء على عدة أساليب ذكرتها في دروس (فلنرجع إلى الله) وقلنا هناك:أنه سلك طريق العوالم الثلاثة التي يعيشها الإنسان (العقل، القلب، الروح) فمثلاً يربط بين منع السماء بركاتها والأرض خيراتها وتسلط الأشرار وعدم استجابة الدعاء فيجعل علتها ابتعاد الناس عن شريعة الله وترك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن أراد أن يتخلص من هذه النتائج السيئة فليؤدّ هذه الفريضة. ففي الحديث:(إذا تركتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نزعت عنكم البركات ونزلت عليكم البليّات وسلطت عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم)([64]).

وكان على رأس هذه الأساليب ما أشرنا إليه من عرض مشاهد وأهوال الموت وما بعده ويوم القيامة وحوار الكافرين والفاسقين في النار ومع شياطينهم والتذكير بسنن الله تبارك وتعالى في المعرضين عن طاعته. قال تعالى:(دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) (محمد:10)،(فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (آل عمران:11)، وتعداد نعمه على العباد التي لا تعد ولا تحصى مع إقرارهم بحقيقة فطرية:(هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ) (الرحمن:60)، ثم بيان السعادة التي تعمر قلب الإنسان وحياته ومجتمعه لو طبق شريعة الله. قال تعالى:(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ)(الأعراف:96).

إن العقيدة والأخلاق هما اللذان يرسمان الهدف الذي يعيشه الإنسان وبالتالي فهما يُحدّدان معالم مسيرته، فمثلاً إذا أريد التبرع لمشروع خيري أو مساعدة محتاج فأيهما الذي يبادر إلى المشاركة:المؤمن الذي يبتغي رضا الله سبحانه ويرجو العوض منه أم البعيد عن الدين الذي غاية همّه الاستزادة من الدنيا والذين هم (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ) (الممتحنة:13)، فالأول أسرع للمشاركة. فهذا مثال على اثر العقيدة والأخلاق في دفع الإنسان إلى التطبيق، فالمؤمن هدفه الله تبارك وتعالى، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، وإنما انحدرت الأمة وضلت لأنها أضاعت الهدف الذي تعيش من أجله فتفرقت بهم السبل. قال تعالى:(وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأنعام:153).

فما علينا إلا ملء هذا الفراغ في عقول وقلوب المجتمع حتى تصح مسيرته وتنتظم حياته وفق ما أراد الله تبارك وتعالى، وان نأخذ بطريقة القرآن في إحياء القلوب وترقيقها وتهذيب النفوس وتغذيتها بالعقائد الحقة التي هي منشأ الأخلاق الفاضلة. قال تعالى:(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد:16).

وهذا باب ينبغي للمفكرين والمربين الولوج فيه وهو أسلوب القرآن في الموعظة وإحياء القلوب وجميع الآيات الشريفة فيه التي لو تأملها العاقل لأعاد النظر في منهج حياته، كقوله تعالى في سورة الدخان:(كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ، وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ، كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ، فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ) (الدخان:25-29).

وإني أنصح بقراءة كتاب (القلب السليم)([65]) الـــذي يتـــألف مـــن جزئين أولهما في العقائد والآخر في الأخلاق وهما صادران من قلب مخلص طاهر.

3-    التدريجية في الهداية والإصلاح والأخذ بأيدي الناس برفق ومثالهم الرئيسي على ذلك:التدريج في تحريم شرب الخمر - باعتباره عادة راسخة في المجتمع وقد أشربت في قلوبهم وعقولهم - فتدرج في المنع على مراحل، أوّلها:( يسأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِـرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) (البقرة:219)، فقال بعضهم لا نشربها لأنها إثم وقد حرم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم، وقال بعضهم نشربها بمقدار المنافع فيها، ثم نزل قوله تعالى:(لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ) (النساء:43)، فامتنع بعضهم وقالوا لا نتناول شيئا منافياً للصلاة، ثم نزلت آية المائدة التي أفادت المنع المؤكد الجازم:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِـرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ) (المائدة:90).

ونفس نزول القرآن نجوماً أي مبعضاً على مدى (23) سنة إنما يهدف - فيما يهدف إليه - المعالجات الآنيّة آخذاً بنظر الاعتبار الزمان والمكان والظروف الموضوعية وتباين مستوى الناس واستعدادهم للتلقي والتطبيق.

ويمكن أن يكون التدرج بعدة أشكال فعندما يراد معالجة ظاهـــرة اجتماعية متأصلة - كالسنينة العشائرية مثلاً - فنبدأ أولاً بإثارة الإشكالات حول مدى صحتها وجدواها والتشكيك فيها ثم طرح البدائل والخيارات الأخرى المقابلة لها فإذا زرع في النفوس هذا التشكيك وبدأ الالتفات إلى البديل الأفضل فستنشأ القناعة بإبدالها، وعندئذ يمكن التصدي لنقضها، أما محاولة نقضها مباشرة ومن دون هذه التهيئة فإنه يعني الفشل الذريع، وما دامت راسخة ومتأصلة وقد جبل الإنسان على احترام ما هو مألوف وموروث عنده والتعبد به فسيكون هؤلاء المتعبدون كلهم ضد اية محاولة لتغيير هذه الظاهرة الاجتماعية.

فعندما بُعث الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) بالنبوة لم يتعرض للأصنام مباشرة بل كان يعبد الله تعالى هو (صلى الله عليه واله وسلم) وعلي (عليه السلام)([66]) وخديجة (عليها السلام) بمرأى ومسمع من قريش من دون أن تتعرض له بسوء، لكنه (صلى الله عليه واله وسلم) فتح الباب للعديد من التساؤلات:ماذا يفعل هؤلاء الثلاثة ولمن يعبدون ولماذا تركوا طريقة قومهم وما هذه الشجاعة والإيمان الراسخ في قلوبهم الذي يجعلهم يقفون بكل اطمئنان مقابل الجميع . . . هذه التساؤلات أدت إلى إسلام جماعة - راجع قصة عبد الله بن مسعود في كتب السيرة([67]) - ولم تعارضه قريش لأنه لم يستفزها ولم يُثر حفيظتها فيما لو تعرض للأصنام مباشرة.

4-    الاهتمام وإلفات نظر الأمة إلى المرتكزات الأساسيـة لكيـان الأمة الذي لا يحفظ إلا بها خصوصاً تلك التي يعلم إعراض الأمة عنها وإهمالها لأمرها من بعده (صلى الله عليه واله وسلم) فشدد عليها كثيراً، مثلا، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإمامة والولاية للمؤمنين ومشاققة الكافرين ومودة ذوي القربى والاعتصام بالقرآن والعترة والمواظبة على المساجد والجماعات والجمعات، وما أن غاب شخصه (صلى الله عليه واله وسلم) حتى أهملت الأمة هذه الأسس الرصينة لحفظ كيانها فبدأ العد السريع للانحراف فأي عودة للصلاح والإصلاح لابد لتحقيقها من إعادة دور هذه الأمور في حياة الأمة إلى بحوث مستقلة بإذن الله تعالى.

5-    التسلية وتطييب الخاطر والتخفيف عن المصاعب والأتعاب التي تواجه الشخص الذي يسعى إلى إصلاح المجتمع وهدايته أو ما سميناه بحامل القرآن كرسالة إصلاح، قال تعالى:(المص، كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)(الأعراف:1-2)، و(فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ) (هود:12)،(وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ، إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) (النحل:127-128)،(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذىً كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فإن ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) (آل عمران:186)، وأرقّ تعبير وألطفه قوله تعالى:(وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) (الطور:48)، عين الرعاية واللطف والرحمة والحراسة والتوجيه والبصيرة وغيرها.

وتجد سوراً كاملة نزلت لهذا الغرض كسورة يوسف التي تحس إنها نزلت في الفترة العصبية التي عاشها رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) في مكة قبل الهجرة حيث فقد الناصر بموت أبي طالب وخديجة (عليهما السلام) ويأس عمليا من إسلام قريش وحاول ان يجد مأوى آخر غير مكة كالطائف فلم يفلح فضاقت الدنيا بالمؤمنين، وفي ذلك الحين نزلت عليهم سورة يوسف تقص عليهم كيف تآمر الأخوة على أخيهم الصغير ورموه في الجب وهو يعني الموت بحسب الأسباب الطبيعة، لكن الله تعالى يرسل قافلة تستنقذه ويباع إلى بيت ملك مصر ثم يقع في محنة امرأة العزيز وباقي النساء فيسجن سنين لكن الله تعالى ينقذه من السجن ويعلمه تأويل الأحاديث، فنال ببركة ذلك موقع أمين خزائن مصر، ثم أصبح ملكا عليها بعد أن ملك قلوب الناس بأخلاقه وحسن تدبيره. وهنا يأتي أولئك الإخوة المتآمرون ذليلين بين يديه فيعفو عنهم بنفسه الكبيرة وقلبه الرحيم ويقول لهم:(لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (يوسف:92)، ويجمع الله شمله مع أبيه وأخيه. واستعار رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) نفس الكلمة حين فعلت قريش نفس الفعل حتى نصره الله عليهم ومكنه من رقابهم في عقر دارهم مكة فأعاد عليهم كلمة أخيه الكريم يوسف (عليه السلام) وقال (صلى الله عليه واله وسلم):(لا تثريب عليكم اليوم اذهبوا فانتم الطلقاء) بعد أن استنطقهم:ما تروني فاعلاً بكم، قالوا (أخ كريم وابن عم كريم)([68])، وهذا إقرار منهم بسمو ذاته (صلى الله عليه واله وسلم) .

6-    الحث على طلب العلم والتعلم والتفقه بكل ما يقرب إلى الله سبحانه ويزيد من المعرفة به، وقيل أن في القرآن أكثر من خمسمائة آية تحث على العلم والتفكر وتثني على العلماء وتذمّ الجهل والجهلاء وتصف عاقبتهم، حتى جعل القرآن صفة الفقه والعلم والمعرفة بالله تبارك وتعالى سببا لمضاعفة قوة المؤمنين على أعدائهم عشرة أضعاف بحسب التعليل المستفاد من ذيل الآية الشريفة، قال تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ) (الأنفال:65) بينما جعل الصبر الذي هو من الأسباب المهمة للنصر بمثابة زيادة القوة ضعفاً واحداً فقط:قال تعالى:(الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فإن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)(الأنفال:66).

من فقه المواجهة مع الكفار والطواغيت:

وهذا الفقه شامل لكل نواحي الحياة، فماذا ضخ القرآن من أفكار تندرج في ما يمكن تسميته فقه المواجهة مع الكفار؟ قال تعالى:(وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيماً) (النساء:104)، فلماذا الفرار من لقائهم ما دامت الأضرار تحل بالطرفين؟ والفرق أنكم ترجون ما عند الله في الآخرة فلا خسارة، بينما هم لا يرجون ما عند الله شيئاً إلا العذاب الأليم.

وقوله تعالى:(وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) (الحشر:2).

وقوله تعالى:(مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (التوبة:120-121) فلماذا التقاعس والتقصير في تقديم ما تقتضيه طاعة الله تبارك وتعالى من جهد ومال ولماذا سوء الظن بالله تعالى هذا الذي يعتري الناس حين يطلب منهم دفع ما بذمتهم من حقـــــوق شرعيــة كالخمــس الزكاة ونحوهما؟

ومنها قوله تعالى:(ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ) (يونس:103).

ومنها هذه الآيات المباركة من سورة محمد، وإذا استطعت أن تنتقل بروحك وفكرك وقلبك إلى تلك الفترة الزمنية السعيدة من حياة البشرية وتتصور أنك ضمن الجماعة المؤمنة المحيطة برسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) التي واكبته من الزمان الصعب أول الرسالة عندما كانوا قلة مستضعفين تسومهم قريش سوء العذاب حتى هذه الفترة التي دب فيها العجز واليأس لدى المشركين بعد وقعة الأحزاب حيث أصبح زمام المبادرة بيد رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وتوالت انتصاراتهم من فتح الحديبية إلى فتح خيبر وفتح مكة والطائف ثم اليمن والجزيرة كلها، فتصور انك هناك وينزل عليك هذا الخطاب القرآني العظيم ومن لدن ربك ومدبر أمورك وخالق السموات والأرض يتحدث إليك مباشرة ليقول لك:(بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ، ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ، فإذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إذا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ، سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ، أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ([69])، إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ، وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ، أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ) (محمد:1-14)،(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:55).

وهو أثناء ذلك يحذر من محاولات المنافقين الذين يخذلون المؤمنين عن مواجهة الأعداء ويسخرون من ضعف إمكانياتهم متغافلين عن سر قوة المؤمنين وهي اتصالهم بالله تبارك وتعالى، فاسمعه سبحانه يقول:(إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فإن اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(الأنفال:49).

وتندرج في هذا السياق - أعني فقه المواجهة مع الكفار - كل الوعود الإلهية بالنصر والغلبة ووراثة الأرض، وأن العاقبة لهم، وأن الله معهم، وتنزل الملائكة عليهم بالسكينة من ربهم، ورفع الخوف والحزن عنهم، وعقد صفقة الشراء معهم فيشتري منهم أنفسهم وأموالهم والثمن الجنة، وكذا مضاعفة القرض لله تبارك وتعالى والإنفاق في سبيله. ولا يسع هذا المختصر كل التفاصيل.

والحقيقة الكبرى التي يثبتها القرآن الكريم بهذا الصدد أن النصر والهزيمة أمام العدو الخارجي - الكفار - إنما هي فرع النصر والهزيمة مع العدو داخل النفس الأمارة بالسوء وهو الشيطان، فتراه عندما يعد المؤمنين بخلافة الأرض ووراثتها ومن عليها فإنه يجعل الخطوة الأولى في ذلك إصلاح الذات وتطبيق المنهج الإلهي على النفس أولا، قال تعالى:(وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ)(القصص:5-6)، فأولاً جعلهم أئمة وهو يعني تطهير ذواتهم وتنزيهها، ويؤكد أن لا قيمة للنصر على الكفار إذا لم يكن مقترناً بالنصر على الشيطان وإخلاص العمل لله سبحانه لأن العمل أن لم يكن ابتغاء مرضاة الله فهم والكفار على حد سواء وكلاهما أهل دنيا وما لهما في الآخرة من نصيب.

فمثلاً في خضم هزيمة المسلمين في معركة أحد والخسارة الأليمة التي حلت بهم يخاطبهم سبحانه:(إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ)(آل عمران:155) فهزيمتهم وإدبارهم كان بسبب ما اكتسبوا من السيئات، وبالمقابل يقول تعالى:(إِن تَنصُـرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ)(محمد:7)، ونصر الله يكون بطاعته تبارك وتعالى وإلا فإنه غني عن العالمين، والآية المتقدمة (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ)، ومن هنا خاطب رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) سرية مجاهدين عادت من القتال:(مرحبا بكم، قضيتم الجهاد الأصغر وبقي عليكم الجهاد الأكبر. قيل:وما هو يا رسول الله؟ قال:جهاد النفس)([70]).

الكيان الصهيوني من الأعراض المرضية فعالجوا أصل المرض:

فعندما يهتم المسلمون اليوم بأمر الدولة الصهيونية اللقيطة ويسعونَ إلى إزالتها، عليهم أن يلتفتوا إلى أن هذه الدولة ما هي إلا أحد الأعراض المرضية التي تظهر على جسد الأمة الإسلامية نتيجة وجود مرض كامن فيها هو الأصل والعلة لهذه الأعراض، والمرض هو ابتعاد المسلمين عن المنهج الإِلهي في حياتهم فلا ينبغي لهم الاهتمام بالأعراض المرضية والغفلة عن علة هذه الأعراض، ويكون مثلهم كما يجري في ساحة مصارعة الثيران - على تشبيه احد المفكرين([71]) - فالثور الهائج يركز كل همه وعدائه وغضبه وقوته على الخرقة الحمراء ويغفل عن المصارع الحامل لها، فراح هذا المصارع يغرز في عنقه الخناجر التي تصيب مقتله وهو غافل عنه حتى يموت ويفنى. فلا يكون حالنا كحال ذلك الثور؟! وأنت ترى أن الأمة تقترب من النصر على أعدائها كلما اقتربت من النصر على أنفسها وبمقدار ما تعود وترجع إلى الله تبارك وتعالى.

فائدة تكرار القصص في القرآن:

7-    تكرار واستمرار جرعات العلاج وعدم الاكتفاء بعرض العلاج لمرة واحدة عند التصدي لتصحيح حالة منحرفة أو سد نقص أو علاج خلل موجود في فكر الأمة أو عقيدتها أو سلوكها، فمثلاً تجد قصص بعض الأنبياء قد تكررت أكثر من عشر مرات وكل طرح له ذوقه وأثره ودوره في تحقيق الغرض ويترك انطباعا غير الذي يتركه الآخر وان كان الجميع بنفس المضمون.

فعندما نريد أن تتناول قضية تبرّج المرأة أمام الرجل وخلاعتها ونصب نفسها شيطاناً يصد عن ذكر الله تعالى وطاعته لتجسيد قول إبليس عملياً:(لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) (الأعراف:16-17)، وهذه الفاسقات يستعملنَ شتى الأساليب لغواية الرجال وإيقاعهم في المعصية من السفور المتبرج في الشارع إلى الحركات المتميعة في الجامعات إلى إبداء مفاتن الجسد إلى الرياضة إلى المشاهد الخليعة في الفن.

فعندما نريد أن نتصدى لمواجهة هذا الداء الفتاك في المجتمع فيمكن معالجته في كتاب عن الظواهر الاجتماعية المنحرفة وكتاب عن قضايا المرأة وكتاب عن اثر الرياضة والفن في تدمير أخلاقيات المجتمع وكتاب عن مشاكل طلبة الجامعات وهمومهم وتطلعاتهم وكتاب بنفس المضامين عن الشباب وكتاب عن فقه العائلة ويتضمن الروابط الأسرية والاجتماعية وفق تعاليم الشريعة وهكذا لان هذه المشكلة الخطيرة تدخل في جميع هذه المحاور، وتناولها في كل المحاور يعطيها صورة ونمطا غير الذي يعطى عند عرضها في محور آخر، ولا اقل من ازدياد عدد الشرائح التي تخاطبها هذه الكتب وبالنتيجة تكون الصورة متكاملة عندما تُتناول من جميع الاتجاهات([72]).

8-    سلوك مختلف الطرق لهداية الإنسان ولما كان له عوالم ثلاثة هي النفس والعقل والقلب فتجده قد سخرها جميعا ووظفها لاستمالة البشر إلى طاعة الله تبارك وتعالى وقـد شــرحت ذلك بشيء من التفصيل في دروس (فلنرجع إلى القرآن).

وتجده كثيراً ما يستنطق الفطرة ويستثيرها وقد وصف علة إنزال القرآن في بعض الأحاديث أنه:(ليستثير كوامن فطرتهم) فإن الوجدان أوضح دليل وأصدقه لا يناقش فيه أحد، فاستمع إليه تعالى وهو يخاطب الفطرة في إثبات الصانع:(أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ، أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ)،(أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ، أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ)،(أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ)،(أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ)(الواقعة:58-72)، أو يقول تعالى وهو في مقام عتاب الإنسان العاصي:(هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ) (الرحمن:60)، وأنت ترفل في نعم الله تبارك وتعالى:(وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا) (إبراهيم:34).

كيف السبيل إلـى إعادة تفعيل دور القرآن؟

وأعود الآن إلى التساؤل الذي طرحناه وهو كيف السبيل إلى إعادة القرآن إلى الحياة والاستفادة منه، ويتحمل مسؤولية ذلك طرفان:المجتمع والحوزة الشريفة التي هي عنوان ورمز وعي الأمة وفكرها ومستواها الديني فقد قلنا إن أهم وظيفة تقوم بها الحوزة في المجتمع هي طرح مفاهيم القرآن ورؤاه وتصوراته وأخلاقه وعقائده - التي أشرنا إلى بعضها - إلى المجتمع بالفهم الصحيح النقي كما يريده القرآن وبالشكل المناسب ليكون دوره فاعلا في حياة الأمة ويكون ذلك بعدة قنوات كالمنبر الحسيني والمحاضرات والندوات وخطب الجمعة والجماعة والكتب والمجلات والنشرات ونحوها.

ولكن قبل ذلك يجب إعادة القرآن إلى مناهج الدراسة الحوزوية ويتم ذلك على مستويين:

الأول:الدراسات الأولية أي مستوى المقدمات والسطوح الابتدائية فيعطون المناهج التالية([73]):

1-    حفظ وتلاوة القرآن الكريم وضبطه بالشكل وفق قواعد اللغة العربية وإتقان قواعد تجويده ضمن الإطار الشرعي.

2-    تفسير إجمالي للألفاظ ولو على نحو شرح المفردات كما في تفسير شبر ونحوه، ليأخذ الطالب أفكاراً عامة عن معاني القرآن.

3-    دراسة علوم القرآن، وأفضل كتاب في ذلك (البيان) أو مقدمة كتاب آلاء الرحمن المطبوعة في أول تفسير شبر.

4-    إقامة المسابقات في العلوم المختلفة عن القرآن وتخصيص جوائز للفائزين والمتفوقين.

الثاني:الدراسات العالية ويكون على شكل عدة خطوات:

1-    فتح باب التخصص في الدراسات القرآنية، وأفضل وقت له هو بعد إكمال السطوح العالية حيث يعد الطالب المتخصص منهجاً خاصاً به ويمكن أن يسُتفاد من بعض الكتب الموجودة بعد أن يجرى اختبار معين لاكتشاف أهلية الطالب الذي يريد التخصص في هذا المجال ويفرغ لهذه الدراسة مع توفير المصادر ذات الصلة ليكون مدرساً أو مفسراً أو باحثاً قرآنياً.

2-    دراسة تفسير القرآن بشكل معمق أما كل القرآن أو آيات ومقاطع منتقاة منه تخدم هدفا معينا، ويمكن ان يتخذ احد التفاسير متناً يتولى المدرس شرحه والتعليق عليه وإضافة ما يمكن إضافته من المعلومات النافعة المستفادة من التفاسير والمصادر الأخرى، وفي رأيي القاصر إن من المصادر المفضلة هما الميزان وفي ظلال القرآن لأن لكل منهما اتجاهاً خاصاً في التفسير غير الآخر يعلمه من نهل من معارفهما.

3-    وضع مناهج للدروس في مفاهيم القرآن وتصوراته ونظرياته وأطروحاته وفلسفته في الكون والحياة بعد أن يكون الطالب قد أخذ تفسيراً اجمالياً لألفاظ القرآن في دراسته السابقة، وتحصل هذه الأمور بدراسة آيات القرآن دراسة موضوعية وليس بالطريقة التجزيئية المتعارفة وإن كانت هذه الطريقة هي الأساس لتلك، وقد قارنت بين المنهجين في كتابي المخطوط (مدخل إلى تفسير القرآن) الذي يعد هذا البحث مقدمة له.

ويركز على المواضيع العلمية أي التي لها واقع معاش سواء علـــى صعيـــد

 العقائد أو الأخلاق أو الفكر، فتتناول مثلاً:التقوى، الصبر، الفقه، التوحيد، الإمامة، الولاية، الشيطان، المعاد، المجتمع المسلم مقومات بنائه وعوامل انهياره، الرجاء والأمل، الموعظة والعبرة، سنن الله في الأمم والمجتمعات، وهكذا، وعندئذ ستتغير الكثير من أفكارنا لأن المعاني المتداولة الآن للألفاظ القرآنية لا تنطبق بالضبط على الفهم القرآني لها بحسب استقراء موردها في القرآن بسبب ما تراكم من غبار التأويلات والتفسير بالرأي وتحكيم الأهواء والتعصبات وحملات المغرضين وغيرها.

الفقه والفقيه في المصطلح القرآني:

وقد عرضنا قبل قليل مفهوم الجاهلية في المصطلح القرآني وصفات وخصائص المجتمع الجاهلي والبدائل الإلهية التي يقدمها القرآن وهكذا كنموذج لمفهوم اجتماعي.

وأقدم الآن الفهم القرآني للفظ حوزوي وهو (الفقه) كمثال آخر، فالفقه يتداول عندنا على انه العلم بالأحكام الشرعية رغم أنه في المصطلح القرآني بمعنى المعرفة بالله تبارك وتعالى ولا ملازمة بينهما كما هو واضح بل النسبة بينهما العموم من وجه.

ففي الآية الشريفة:(فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إذا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة:122) ونحن نعلم ان الحذر والتقوى لا ينشآن من المعرفة بالأحكام الشرعية بل للحذر مناشئه الروحية والنفسية والعقلية وبعد حصول التقوى والمعرفة في القلب يندفع إلى تعلم الأحكام الشرعية وتطبيقها وتستطيع أن تجرب ذلك بنفسك فاقرأ كتب الفقه وتعمق فيها من أولها إلى آخرها هل تراها غذت قلبك بشيء أو زادت فيه الحذر والتقوى؟ وكم رأينا فقيها بالمعنى الاصطلاحي وهو مكب على الدنيا وبعيد كل البعد عن الله تبارك وتعالى.

والقرآن يقص علينا خبر مثل هذا الفقيه:(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الأعراف:175-176).

ومن الشواهد على أن معنى الفقه هو المعرفة بالله تعالى جعل محله القلب في الآيات الشريفة وهو محل المعرفة الحقيقية بالله تعالى، بينما الأحكام الشرعية محلها العقل، قال تعالى:(رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ) (التوبة:87)، وقال تعالى:(لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا) (الأعراف:179).

لذا جعلت الآية هذا الفقه أي المعرفة الراسخة بالله والمبدأ والمعاد سببا لمضاعفة القوة عشرة اضعاف. قال تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ) (الأنفال:65).

ويؤكد هذا المعنى ما ورد في الحديث الشريف عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قال:(ألا أخبركم بالفقيه حقاً؟ من لم يقنط الناس من رحمة الله ولم يؤمنهم من عذاب الله ولم يؤيسهم من روح الله، ولم يرخص في معاصي الله ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره، ألا لا خير في علم ليس فيه تفهم، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر، ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفقه)([74]) هذا في كتاب الوسائل. وللحديث بقية في مصدر آخر([75]) كالتالي:(فإنه إذا كان يوم القيامة نادى مناد:يا أيها الناس إن أقربكم من الله تعالى مجلساً أشدكم له خوفاً، وإن أحبكم إلى الله أحسنكم عملاً، وإن أعظمكم عند الله نصيباً أعظمكم فيما عنده رغبة، ثم يقول عز وجل:لا أجمع لكم اليوم خزي الدنيا وخزي الآخرة، فيأمر لهم بكراسي فيجلسون عليها، وأقبل عليهم الجبار بوجهه وهو راض عنهم وقد أحسن ثوابهم).

فترى أن صفات الفقيه كل ما يقرب إلى الله تبارك وتعالى، وفي حديث عن أمير المؤمنين (عليهم السلام) قال:(كانت الفقهاء والحكماء إذا كاتب بعضهم بعضاً كتبوا ثلاثاً ليس معهن رابعة:من كانت الآخرة همته كفاه الله همه من الدنيا، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح فيما بينه وبين الله عز وجل أصلح الله فيما بينه وبين الناس)([76]).

وفي حديث عن أبي الحسن (عليه السلام):(من علامات الفقه الحلم والعلم والصمت، إن الصمت باب من أبواب الحكمة وإن الصمت يكسب المحبة وإنـــه

دليل على كل خير)([77]).

ويمكن استفادة هذا المعنى بالجمع بين حديثين ففي الخصال عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم):(صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمتي:الأمراء والفقهاء)([78]) وفي الوسائل عن الأمالي. بدل العلماء القراء فإذا ضممنا إليه الحديث الآتي في صفة القراء نحصل على المعنى المذكور.

فبين الفقيه بالمصطلح القرآني والفقيه بالمعنى الحوزوي عموم من وجه إذ قد يكون فقيها بالمعنى القرآني وهو ليس كذلك بالمعنى الحوزوي إذ يوجد الكثير من أولياء الله العارفين ولهم الكرامات المشهودة مع أنهم لم يبلغوا درجة عالية في العلوم الحوزوية وقد يكون العكس فتجد شخصاً امتلأ ذهنه بالنظريات والأفكار الأصولية والعقلية والمسائل الفقهية بحيث تجده ملماً حتى بدقائق المسائل لكن قلبه غير معمور بذكر الله تعالى ولو سألته عن أبسط مسألة في تهذيب النفس والسلوك الصالح إلى الله تبارك وتعالى وتصفية الباطن وتطهير القلب لبقي متحيراً، فمثل هذا ليس فقيها بالمعنى القرآني، والكامل هو من جمع المعنيين كما هو شأن علمائنا المقدسين الذين بلغوا مقاماً عالياً في الفقه والأصول وشامخا في العرفان، وهم المقصودون في الحديث الشريف:(الفقهاء أمناء الرسل)([79])، وبمثل هذا المنظار القرآني يجب أن نفهم الأحاديث الشريفـــة لئــــلا تضيع علينا معانيها السامية.

مسؤولية الحوزة عن تفعيل دور القرآن:

وإني هنا أذكر حديثاً واحداً فقط يبين مسؤولية الحوزة الشريفة عن توعية المجتمع وهدايته وإصلاحه فقد روي أن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) (خطب فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر طوائف من المسلمين فأثنى عليهم، ثم قال:ما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتفطنون؟ والذي نفسي بيده ليعلمن جيرانهم أو ليتفقهن أو ليتفطنن أو لأعاجلهم بالعقوبة في دار الدنيا، ثم نزل ودخل بيته، فقال أصحاب رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم):من يعني بها الكلام؟ قالوا:ما نعلم يعني بهذا الكلام إلا الأشعريين فقهاء علماء ولهم جيران جفاة جهلة.

فاجتمع جماعة من الأشعريين فدخلوا على النبي (صلى الله عليه واله وسلم) فقالوا:ذكرت طوائف من المسلمين بخير وذكرتنا بشر فما بالنا؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) لتعلمن جيرانكم ولتفقهنم ولتأمرنهم ولتنهنّهم أو لأعاجلنكم بالعقوبة في دار الدنيا، فقالوا:يا رسول الله فأمهلنا سنة ففي سنة ما نعلمهم ويتعلمون فأمهلهم سنة ثم قرأ رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم):(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ، كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ)([80]).

هذه هي بعض المقترحات التي أقدمها بين يدي الحوزة الشريفة في هـــذا

المجال والوظيفة المشتركة للجميع هي المواظبة على تلاوة القرآن والاستفادة منه آناء الليل وأطراف النهار وستعرف الكثير عن هذا من خلال الأحاديث الشريفة الآتية.

وهذه الوظيفة للحوزة لا تخصهم وإنما خاطبناهم بها لوجوبها عليهم أكثر من غيرهم، وإلا فالمجتمع كله مسؤول عن اتباع هذه الخطوات بحسب ما يناسب كل فرد، فذوو المعرفة القليلة يبدأون بقراءة التفاسير المبسطة كتفسير شبر.

وإني أنصح كل مسلم - وهو ما جربته أنا - أن يبدأ حياته مع القرآن بأن يتلوه في مصحف وعلى هامش كل صفحة تفسيرها مختصراً كتفسير شبّر؛ ليتسنى له فهم مفردات الآيات خلال تلاوتها، ويستمر على هذا الحال عدة ختمات إلى أن يمتلك معرفة إجمالية بالقرآن، ثم يعود إلى نسخة المصحف يتلو فيها مع تطوير قابليته بقراءة كتب التفسير المتقدمة كالميزان وفي ظلال القرآن ويقرأ الكتب التي شرحت مفاهيم القرآن أو تناولت القرآن بحسب الموضوعات، حيث يتخذ احدها عنوانا للبحث ثم يستقرئ القرآن فتجتمع كل الآيات المتعلقة بذلك العنوان ثم يستنتج من المجموع تصور القرآن ونظريته - وأنا هنا استعير هذه المصطلحات الفكرية لأجل استئناس الأذهان بها مع بعض التحفظات - لهذا الموضوع الذي يفترض فيه أن يعالج مشكلة واقعية يعيشها المجتمع سواء كانت عقائدية أو أخلاقية أو فكرية أو غيرها.

وقد يكون من الأفضل متابعة ذلك مع بعض فضلاء الحوزة الشريفة ليوجهوهم ويجيبوا عن تساؤلاتهم ويرشدوهم لما ينفعهم فإن المجتمع والحوزة احدهما يكمل الآخر، فالحوزة توجه المجتمع والمجتمع يضغط على الحوزة لتكون بمستوى المسؤولية وبمستوى حاجة الأمة وطموحاتها ومواكبة للزمان الذي تعيشه وعندئذ ستنفرز العناصر الكفوءة من الحوزة عن غيرها وستعرف الأمة من هو الأصلح لها.

إن القرآن لا يفهم حق فهمه إلا عندما يحمله الإنسان كرسالة يصلح بها نفسه والذين من حوله ويواجه بها الخطأ والانحراف الذي يضرب بأطنابه على البشرية، عندئذ يعيش في مثل الأجواء التي نزل فيها وعندئذ تنفتح له أسراره، ولا تكفي قراءته لمجرد التبرك وإن كان في ذلك فضل لا ينكر.

ومن الضروري أن تتناول إحدى الدراسات القرآن بحسب تأريخ نزول آياته وإن كان الإلمام بذلك تفصيلاً أمراً متعسَّراً لعدم وجود دليل قطعي عليه إلا أنه يمكن اقتناص بعض موارده ويستفاد من هذا البحث فوائد كثيرة في مجال معرفة خطوات القرآن في إصلاح المجتمع باعتباره نزل تدريجياً بحسب الوقائع والحوادث.

إن هذا التنزيل المتدرج للقرآن بدلاً من النزول دفعة واحدة له وقعه المباشر وتأثيره الفعال في الحالات التي عالجها، قال تعالى:(وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً) (الإسراء:106)، وما دام هو كتاب تربية وهداية وإحياء فلا بد أن يكون تدريجياً وبلطف فيصف العلاج المناسب في الوقت المناسب وبالجرعة المناسبة لا أقل ولا أكثر ولا قبل الموعد ولا بعده، وهكذا أخذ القرآن بيد هذه الأمة برفق لتجد نفسها بعد عقدين من الزمان فـي قمة السمو والكمال والرفعة والعزة والمنعة.

بعض الآداب والمستحبات المتعلقة بتلاوة القرآن:

وأود هنا أن أذكر بعض الآداب والسنن والمستحبات المتعلقة بقراءة القرآن والمستفادة من الروايات الشريفة:

1-    يستحب ختم القرآن في الشهر مرة، وأن لا تزيد عن أربعة أشهر أي يختمه في السنة ثلاث مرات غير الزيادات التي ينبغي إضافتها في شهر رمضان المبارك.

2-    أن تكون قراءته على نحو الختمة أي يبدأ من أول القرآن إلى آخره، وليس قراءة سور متفرقة اشتهر فضلها بين الناس مهما كانت أهميتها، ليمر على القرآن كله وينال كل بركاته وهو المعبر عنه في الحديث الشريف الآتي:(الحالِّ المرتحل)([81]).

3-    أن يصادف الختم يوم الجمعة وأن يقرأ عند ختم القرآن الدعاء المختص به وهو موجود في الصحيفة السجادية.

4-    عندما يختم القرآن لا يقف عند نهايته بل يصله مباشرة بافتتاح ختمه جديدة ولو بأن يبدأ بسورة الفاتحة وأول خمس آيات من سورة البقرة.

5-    أن يكون على طهارة وفي مصلاه مستقبلاًً القبلة.

6-    ورد في تفسير قوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ) (آل عمران:200)، إن من المرابطين من يثبت على مصلاه ينتظر حلول وقت الفريضة، فلتحصيل فضل المرابطين يستغل المؤمن هذه الحالة وهي فترة انتظار وقت الصلاة لتلاوة القرآن ويكون الأجر أعظم لو كان ذلك في المسجد منتظراً صلاة الجماعة.

7-    وورد استحباب النوم على طهارة وقراءة القرآن قبل أن يأوي المؤمن إلى فراشه وفي حديث إنه:(من أحدث ولم يتوضأ فقد جفاني ومن توضأ ولم يصل ركعتين فقد جفاني ومن صلى ركعتين ولم يدعني فقد جفاني ومن دعاني ولم أجبه فقد جفوته ولست بربٍ جاف)([82])، وإذا أضيف لها الاستحباب المؤكد لصلاة الليل، واستحباب التخلي قبل النوم، واستحباب السواك، خرجنا من ضم المجموع بوُردٍ مهم وهو أن المؤمن قبل أن يأوي إلى فراشه يتخلى وينظف أسنانه ثم يتوضأ ويصلي صلاة الليل، إما كلها أو بعضها، ويؤد البعض الآخر إلى ما قبل طلوع الفجر ثم يقرأ مقداراً من القرآن الكريم ويدعو الله سبحانه له وللمؤمنين فإنه سيجمع كل هذه المستحبات. أما الإنسان الذي يسهر الليل على البرامج والأفلام الفاسدة التي تتعب أعصابه وترهقــه فيعيـش فـــي معاناة ونكد.

8-    أن تكون تلاوته للقرآن خصوصاً للمبتدئين في تفسير شبر الذي يتضمن أكثر من فائدة ففيه نسخة من المصحف الشريف وفيه تفسير إجمالي لمعاني القرآن، وهو ما قلناه أنه ضمن مناهج الدراسات الأولية للقرآن، وفيه مقدمة في علوم القرآن وهو درس آخر، وفيه ملحق بفهرس الألفاظ القرآنية بحيث أن أي آية تريد معرفة موضعها تستخرج من هذا الدليل وموضع أي كلمة منها، وفيه القراءات المتعددة للكلمة الواحدة إن وجدت في هامشه، وفيه ترتيب نزول السور ففي عنوان كل سورة يقول أنها نزلت بعد كذا سورة،كل هذه الفوائد في هذا الكتاب الجليل.

9-    أن يبدأ بإهداء الختمة الأولى لرسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) ثم الثانية لأمير المؤمنين (عليه السلام) وهكذا لجميع المعصومين الأربعة عشر (عليهم السلام)، فقد وردت فيه رواية شريفة وهم أكرم الخلق فسيردون الهدية بما يليق بكرمهم يوم القيامة.

10-   رفع الصوت بالقرآن عند التلاوة، وان يكون حزينا وان يتدبر معانيه ولا يكن همّ أحدكم نهاية السورة، كما في الحديث.

11-   استحباب القراءة في المصحف حتى لو كان حافظاً لما يقرأ، ويستحب أن يكون لكل فرد من أفراد العائلة نسخة من المصحف الشريف خاصة به يضع فيه علامة.

12-   الإنصات إلى القرآن وتدبر ما يسمع في أية فرصة تسنح للاستماع.

أسأل الله تعالى أن يحيينا حياة القرآن وينيلنا شفاعته ويجعلنا ممن يهتدي بهداه ويستضيء بنور علمه إنه ولي النعم وهو اللطيف بعباده ومن لطفه بنا أن هدانا إلى دينه القويم وأتحفنا بكتابه الكريم ونبيه العظيم وأهل بيته الميامين الغرر. الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا نهتدي لولا أن هدانا الله.



([1]) سلسلة محاضرات ألقاها سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله الوارف) بمناسبة حلول العام الدراسي الجديد على طلبة الحوزة العلمية الشريفة في النجف الأشـرف بدأت بتأريخ  السبت 19/محرم /1422هـ الموافق 14/4/2001م. وصدرت في حينها بكتاب مستقل عنوانه (شكوى القرآن) لقي رواجاً كبيراً ولا يزال يعاد طبعه.

([2]) الكافي: كتاب فضل القرآن، باب قراءة القرآن في المصحف، ح3. الخصال: 1/ 142 أبواب الثلاثة.

([3]) وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساجد، باب 5، حديث2.

([4]) روي في كتب العامة والخاصة، وللمزيد راجع كتاب (المراجعات) للسيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي.

([5]) استقرأت عدداً من العينات العشوائية وكانوا من الطلبة المتقدّمين للقبول في الحوزة الشريفة لاستبيان علاقتهم بالقرآن والمفروض أنهم يمثلون درجة من الوعي والإيمان الذي دفعهم لاختيار هذا المسلك فوجدت أن بعضهم لم يختم القرآن ولا مرة وآخر -وهو متصدي للمنبر - ختمه مرتين في حياته والكثير منهم يقرآ سوراً متفرقة في المناسبات والمواسم الدينية هذا على صعيد تلاوته أما فهمه واستيعاب معانيه والتأمل في مفاهيمه ومضامينه فالجهل هنا مطبق.

([6]) معاني الأخبار: الشيخ الصدوق، ص228.

([7]) بحار الأنوار: 92/102.

([8]) البداية والنهاية- ابن كثير: 5/247

([9]) نهج البلاغة: الخطبة 125.

([10]) مستدرك الوسائل: كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن، باب7، حديث 7.

([11]) الخصال: 142.

([12]) إرشاد القلوب: 79.

([13]) بحار الأنوار: 24/13، باب: أنهم عليهم السلام السبيل والصراط وهم وشيعتهم.

([14]) الميزان في تفسير القرآن: ج3 في البحث الروائي للآيات 28-32 من سورة آل عمران، نقله عن أحمد وأبي داود والترمذي وابن ماجة وابن حبّان وغيرهم من رواة العامة.

([15]) الميزان في تفسير القرآن: ج5/ بحث تأريخي في ذيل الآيات 15-19 من سورة المائدة.

([16]) بحار الأنوار: 2/245.

([17]) كشف الغمة: 2/110.

([18]) وقد أكدت على هذه النقطة لانخداع كثير من السذج بهذه الدعوى وراحوا يصدقونهم بعدم الإيمان بشيء إلا إذا وجد دليل عليه من القرآن وإسقاط الاستدلال بالسنة من الحساب.

([19]) بحار الأنوار: 42/256.

([20]) الخصال: أبواب الأربعين، حديث 19.

([21]) عوالي اللآلي: 4/116.

([22]) الكافي: 2/299.

([23]) نهج البلاغة، شرح محمد عبده: 1 / 347 . الخطبة (177) وأولها: (انتفعوا ببيان الله واتعظوا بمواعظ الله).

([24]) الكافي: 2/602.

([25]) صحيح مسلم: 2/196

([26]) بحار الأنوار- المجلسي: 60/117

([27]) وسائل الشيعة (آل البيت): 6/208/ح3

([28]) الدر المنثور- السيوطي: 6/297

([29]) الكافي: 2/609.

([30]) سنن الدارمي:2/435، كتاب فضائل القرآن، ومثله في كتب الخاصة.

([31]) ذكره في الميزان عن بعض المصادر:ج3، في تفسير الآيات 7-9 من آل عمران.

([32]) الكافي: 2/604.

([33]) شكّل هذا الإلزام حافزاً قوياً لدى الكثيرين للعمل به، جزاهم الله خير جزاء المحسنين.

([34]) الخصال: 2/542 باب (الأربعون).

([35]) الميزان: ج10/في تفسير الآيات من 57-70 من سورة يونس، والمقصود في المتن الآية 57 وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} .

([36]) وأنت ترى ذلك في السور المكية التي نزلت أولاً كالمدثر والمزمل فإنها ذات إيقاعات سريعة تستعمل حروفاً قوية فيكون تأثيرها بما يشبه الصعقة الكهربائية التي تستعمل لإيقاظ الغافل كما أن مضامينها يتركز على التذكير بالآخرة والموت وأهوال القيامة وعاقبة المكذبين وبيان سنن الله تعالى في الأمم ونحوها من الصعقات.

([37]) من لا يحضره الفقيه: 4/410.

([38]) الكافي: 2/609، باب في قراءته (قراءة القرآن)، ح1.

([39]) الخصال: أبواب الاثنين، حديث 12.

([40]) وصايا ونصائح إلى الخطباء وطلبة الحوزة الشريفة (وهذا منشور في المجلد الأول من موسوعة خطاب المرحلة).

([41]) تقدم ذكره.

([42]) لذا ورد في الخبر أنه (عليه السلام) يأتي بإسلام جديد وقرآن جديد وهي لا تعني دلالتها المطابقية لأنه (عليه السلام) لا يخرج عن دائرة إسلام وقرآن جده (صلى الله عليه واله وسلم) وإنما يراد به أنه ينفض الغبار عن القرآن ويزيل عنه ركام السنين ويعيده إلى الحياة من جديد.

([43]) صدر الكتاب يومئذ بعنوان (شكوى الإمام عليه السلام) وجمع مع هذا الكتاب و(شكوى المسجد) في كتاب عنوانه (ثلاثة يشكون).

([44]) الكافي: 1/53، باب (التقليد) حديث 1.

وهذا المصطلح القرآني المهم (العبادة) يحتاج إلى إشباع لعدم وضوحه في أذهان المجتمع فيظنون أن العبادة هي الصلاة أو السجود وليست هي الطاعة لذا لا يجدون قدحاً في دينهم أن يصلوا ويصوموا لله لكن معاملاتهم وسلوكياتهم في الحياة تكون بغير ما أنزل الله وهو معنى خطير يجب إزالة الشبهة عنه لذا ورد عن الإمام الجواد (عليه السلام) قوله: (من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان هذا الناطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق ينطق عن لسان إبليس . . .) (تحف العقول: صفحة 336).

([45]) بحار الأنوار- المجلسي: 44/192

وهذا المصطلح القرآني المهم (العبادة) يحتاج إلى إشباع لعدم وضوحه في أذهان المجتمع فيظنون أن العبادة هي الصلاة أو السجود وليست هي الطاعة لذا لا يجدون قدحاً في دينهم أن يصلوا ويصوموا لله لكن معاملاتهم وسلوكياتهم في الحياة تكون بغير ما أنزل الله وهو معنى خطير يجب إزالة الشبهة عنه لذا ورد عن الإمام الجواد (عليه السلام) قوله: (من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان هذا الناطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق ينطق عن لسان إبليس . . .) (تحف العقول: صفحة 336).

([46]) الكافي: ج7 ص407.

([47]) الرسائل العشرة: الشيخ الطوسي، صفحة 317.

([48]) كامل الزيارات: صفحة 201.

([49]) الغدير- الشيخ الأميني: 6/13

([50]) بحار الأنوار: 76 / 136.

([51]) وسائل الشيعة: كتاب النكاح: أبواب مقدمات النكاح وآدابه، باب 28، حديث1.

([52]) بحار الأنوار: 22 / 467.

([53]) أنظر: علل الشرائع- الشيخ الصدوق: 2/558

([54]) الكافي: 5/59، باب: الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

([55]) نهج البلاغة: الخطبة (27).

([56]) أنظر: تفسير ابن كثير: 2/316

([57]) والمقصود به هو السيد الشهيد محمد باقر الصدر (+) ولم يكن سماحة الشيخ يصرّح به جهاراً حيث ألقيت هذه المحاضرات أيام البطش الصدامي ما قبل سنة 2003 حيث كان التصريح والتلميح تهمة كافية لإعدام صاحبها، إلا أن سماحة الشيخ كان يخلل أفكاره ببعض طروحاته ونظرياته (رحمه الله) ويتمثل له ويعيش أفكاره ويشير اليه بطريق خفي في الوقت الذي تخلت الكثير من الجهات الدينية عن خط الحماسة والوعي الإسلامي، بل إن السلطات الصدامية أخذت ترفع التقارير المتتالية عن حركة الشيخ الدينية حتّى وصفته بعض التقارير الأمنية والتي عُثر عليها بعد سقوط النظام البعثي بأنّ حركته وخطّته شبيهة بحركة باقر الصدر مع الشباب.

([58]) كمال الدين وتمام النعمة: 409.

([59]) الكافي: 1/337.

([60]) الكافي: 1/196.

([61]) عوالي اللآلي: 1 / 267.

([62]) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 15/203.

([63]) صدر لاحقاً كتيب عن هذا الموضوع ضمن سلسلة (نحو مجتمع نظيف).

([64])تهذيب الأحكام: 6 / 176.

([65]) للمرحوم الشهيد السيد عبد الحسين دستغيب ولم يكن سماحة الشيخ يستطيع التصريح بالاسماء لأنه يعرّضه لعقوبة النظام الصدامي، وكانت هذه الكتب تدخل الى العراق سراً ثم تستنسخ خفية وتوزّع كذلك.

([66]) أنظر: بحار الأنوار- المجلسي: 38/256),

([67]) أنظر: أسد الغابة- ابن الأثير: 3/256

([68]) تفسير نور الثقلين: 2 / 460.

([69]) وهذه الآية تمثل الإطار العام لهذه المقابلة المؤمنين لهم مولى يرعاهم ويتولى تربيتهم وسعادتهم وصلاحهم وهو الله تبارك وتعالى بينما الكفار لا مولى لهم وإنما مولاهم الشيطان الضعيف الذي يفر عند المواجهة ويخذلهم {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (سورة الأنفال: 48).

([70]) الكافي: 5/12 ، باب: وجوه الجهاد.

([71]) وهو: الشيخ جودة سعيد.

([72]) تم إصدار كتيبات ونشرات تغطي كل هذه المحاور المذكورة بفضل الله تبارك وتعالى، وكانت تنتشر بسرعة وبكميات كبيرة مما أدّى الى رعب النظام وارتباكه وسعى بمكره وخدعه لمعرفة من يتولّى الطبع والنشر واعتقل بعضهم.

([73]) أدخل سماحة الشيخ هذه المفردات كلها في برامج الدراسة في جامعة الصدر الدينية التي يشرف عليها.

([74]) بحار الأنوار: 2/49، باب: صفات العلماء وأصنافهم، حديث 8.

([75]) مدينة البلاغة: صفحة 98، عن كتاب الجعفريات.

([76]) الخصال: صفحة 129 باب الثلاثة.

([77]) الاختصاص: 232.

([78]) مستدرك سفينة البحار- الشيخ النمازي: 6/383

([79]) بحار الأنوار: 2/36 حديث 38.

([80]) الميزان في تفسير القرآن: 6 / 84 في تفسير الآية، عن كتاب الدر المنثور.

([81]) الكافي: 2 / 605.

([82]) وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، باب 11، حديث2.