ملحق: شُـقـّوا أمواج الفتن بسفن النجاة

| |عدد القراءات : 140
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

ملحق: شُـقـّوا أمواج الفتن بسفن النجاة ([1])

قال الله تبارك وتعالى في بداية سورة العنكبوت (أحَسِبَ الناسُ أنْ يُترَكُوا أنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنّا الذِينَ مِنْ قَبلِهِمْ فلَـيعلَمـَنَّ اللهُ الذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعلَمَنَّ الكَاذِبِينَ) (العنكبوت: 2-3). فسُنة الامتحان والابتلاء والاختبار جارية في عباد الله لتظهر استحقاقاتهم وهو مقتضى العدالة وبدونها لا يمكن تكريم محسنٍ ولا معاقبة مسيء ويكون من الظلم تقديم أحد على أحد كتقييم الطلبة في المدارس والجامعات.

    وتتفاوت الامتحانات شدةً وضعفاً بحسب استعداد الشخص وقابليته ليستحق النتائج بجدارة، وقد مرّت الأمم السابقة ببلاءات عسيرة كانت فيها قلوب الصفوة من المؤمنين تتزلزل فضلاً عن عامة الناس، قال تعالى (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة:214) وليس من الضروري أن يكون هذا النصر القريب هو بانفتاح الدنيا عليه وتنعّمه بالخيرات وتسلّمه لمواقع السلطة؛ لأن النصر الحقيقي والأكبر هو على النفس الأمارة بالسوء والتحرر من الانصياع لأهوائها ومطامعها والنصر على غواية الشيطان وعدم الاستجابة لإغراءاته، فهذا هو الميدان الأول للنصر والهزيمة وعليه يتفرع النصر والهزيمة في الميدان الخارجي، وما هذه المظالم التي تحصل بين البشر إلا نتيجة الهزيمة في ذلك الصراع، كما أن البشرية لا تنعم بالسلام والخير والسعادة إلا إذا انتصرت على أهوائها ونزعاتها وملكت زمامها وضبطتها بميزان العدل والحكمة.

إذن فهذه البلاءات والفتن التي تمر بها امتنا اليوم ليست حالة فريدة ولا شاذة، بل هو امتداد طبيعي لتلك السنة الإلهية العادلة، ولم يغفل التخطيط الإلهي للبشرية هذه الحالة بل وضع لهم معالم طريق النجاة من الفتن بالتمسك بحبل الله الممدود لإنقاذ البشر من التخبط والانحراف والضلال والضياع والتمزق.

ويتمثل حبل الإنقاذ هذا بكتاب الله وعترة نبيّه (صلى الله عليه واله) الذين ينقلون بأمانة وتفصيل سنة جدّهم الكريم (صلى الله عليه واله) حيث قال (صلى الله عليه واله) "إني تاركٌ فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً.

ونبّه (صلى الله عليه واله)  أمته في بعض خطبه  بأن الفتن جاءتكم كقطع الليل المظلم وحذرهم من الوقوع فيها كما قال الله تعالى من قبل (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أو قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران:144)، وأرشد الأمة إلى أن نجاتها تكون باتباع قادتها الحقيقيين فهم سفن النجاة (شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة)، فهي ليست فتنة واحدة وإنما فتن كثيرة وهي كالأمواج متلاحقة لا تنتهي واحدة حتى تلحقها أخرى ولا تتخلص من واحدة حتى تأتي أكبر منها كما هي طبيعة الأمواج.

وقد أدى الأئمة دورهم في هداية الأمة وصيانة عقيدتها وأخلاقها من الانحراف، ودافعوا عن دولة الإسلام وضحوا في سبيل الله والمستضعفين من الناس وأرشدوهم إلى ما يصلح حالهم.

وبعد انتهاء عصر القيادة الظاهرة للأئمة جاء دور العلماء المجتهدين الجامعين لصفات وخصائص هذا الموقع الشريف، ليكونوا سفن النجاة بأمر من الأئمة حيث وصفوا العلماء بأنهم (أمناء الرسل وحصون الإسلام) فهم الأمناء على مسؤوليات الرسل، والأولى باستحقاقاتهم وجعلوا قولهم حجة على الناس جميعاً (هؤلاء حجتي عليكم وأنا حجة الله والرادّ عليهم كالراد علينا)([2]).

وقد ورد تسمية مثل هؤلاء الفقهاء الأمناء سفن نجاة في الرواية التالية، فقد كان زرارة بن أعين من أعظم الفقهاء الذين رباهم الإمامان الباقر والصادق (عليهما السلام) وأوسع الأوعية لحمل علمهما، ومع ذلك فقد صدرت من الإمام الصادق (عليه السلام) كلمات ذم في حق زرارة لم يفهم فلسفتها الكثيرون، وقد شرح الإمام الصادق (عليه السلام) ذلك بما روي  عن عبد الله بن زرارة قال: قال لي أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): اقرأ مني على والدك السلام وقل له: إني إنما أعيبك دفاعاً مني عنك فإن الناس والعدو يسارعون إلى كل من قربناه وحمدنا مكانه لإدخال الأذى في من نحـبُّـُه ونقرّبـُه ويرمونه لمحبتنا له وقربه ودنوه منا، ويرون إدخال الأذى عليه وقتله، ويحمدون كلَّ من عبناه نحن فإنما أعيبك لأنك رجلٌ اشتهرت بنا وبميلك إلينا وأنت في ذلك مذموم عند الناس غير محمود الأثر بمودّتك لنا ولميلك إلينا، فأحببت أن أعيبك ليحمدوا أمرك في الدين بعيبك ونقصك ويكون بذلك منا دافع شرهم عنك. يقول الله عز وجل (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) (الكهف:79) هذا التنزيل من عند الله صالحة لا والله ما عابها إلا لكي تسلم من الملك، ولا تعطب على يديه ولقد كانت صالحة ليس للعيب فيها مساغ والحمد لله، فافهم المثل يرحمك الله، فإنك والله أحبُّ الناس إليَّ وأحب أصحاب أبي حياً وميتاً. فإنك أفضل سفن ذلك البحر القمقام الزاخر، وإن من ورائك ملكاً ظلوماً غصوباً يرقب عبور كل سفينةٍ صالحة ترد من بحر الهدى ليأخذها غصباً ثم يغصبها وأهلها ورحمة الله عليك حياً ورحمته ورضوانه عليك ميتاً)([3]).

    فإذا تاهت الأمة واضطربت وتخبطت وتمزقت فبسبب تخلّفها عن تعاليم قيادتها الرشيدة، وإلا فإن التخطيط الإلهي لم يغفل معالم طريق النجاة وقد تحصّل أن على الأمة مرحلتين من التكاليف أمام قيادتها:

الأولى: الفحص عن القائد الذي تجتمع فيه الصفات والخصائص التي اشترطها المعصومون (عليهم السلام) من الاجتهاد، والعدالة، والترفّع عن الدنيا والأنانية والاستئثار، وأن يستشعر حب الناس جميعاً والشفقة عليهم، وأن يكون واعياً ومحيطاً بقضايا الأمة وبصيراً بما يكتنفها، وقادراً على تشخيص العلل ووضع الحلول والعلاجات المناسبة لها، وقد أشرنا إلى ذلك في كلمات سابقة أكثر تفصيلاً، فإذا وجدت الأمة مثل هذا الشخص عليها أن تبقى مراقبة له لئلا يزلَّ وينحرف والعياذ بالله.

الثانية: وهي الطاعة والتسليم والنصيحة وبذل النصرة وعدم التقصير.

     وهذا هو ما نقصده بالتقليد الواعي أي عدم الارتباط بالأشخاص وتقديسهم وإنما الذوبان في المبدأ ونرتبط بالشخص بمقدار تجسيده لتلك المبادئ مهما كان أصله وانتماؤه، ولا نقصد بالتقليد الواعي ما أسميه بالانتقائية أي الالتزام بما يعجبه من أوامر قيادته ومخالفة ما لا يعجبه، فهذا عين الانحراف والضياع وإذا كان عنده شيء يريد أن يقدّمه فإن أعظم هدية هي النصيحة، أما أن يجعل نفسه قيّماً على مواقف المرجعية فيحكم على بعضها بالصحة وعلى بعضها الآخر بالبطلان فهذا من خطل التفكير؛ لأن أي فرد لا يملك قدرة المرجع على استنباط الحكم من مصادر الشريعة وهي الكتاب والسنة، وتجتمع لدى المرجع خبرات عديدة ومستشارون متنوعون وعيون ترصد جميع مساحة العمل أما هذا الفرد وذاك فهو محدود من هذه الجهات.

فالشذوذ عن خط المرجعية هو الخطأ الأكبر حتى لو تصورنا أن موقف المرجعية كان غير صائب لعدم ادّعاء العصمة، وعلى هذا ربّانا الأئمة المعصومون (عليهم السلام)، فلا يجوز لأي فرد من الأمة أن يحكّم مزاجه وأهواءه ويخضع لإسقاطاته النفسية.

فالمسؤوليات والحقوق  والواجبات متبادلة بين القيادة والأمة، ويوجد تلازم بينها ولا تأخذ إلا بمقدار ما تعطي ونرفض أن تركّز القيادة على جانب الامتيازات فتتحدث عن وجوب الطاعة والانقياد وتترك جانب الواجبات والاستحقاقات والعطاء للأمة مما تقدم ذكره، فإن هذا عين التطفيف في المعايير الذي قال عنه تعالى (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) (المطففين: 1-3)، فإن هذه الحالة غير مختصة بميزان البيع والشراء بل تشمل كل التعاملات، فالأب الذي لا يقوم بواجباته تجاه أسرته ويطالبهم باستحقاقات الأبوّة هو من المطففين، والمسؤول الذي يتنعم بامتيازات موقعه ولا يقدم الخدمات المطلوبة منه للمجتمع هو من المطففين، والدول التي تتعامل بمكيالين في علاقاتها مع الدول الأخرى هي من المطففين.



([1]) هذه خلاصات لبعض الأفكار التي وردت في أحاديث سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) مع تجمعات الوفود التي زارته من عدة مدن عراقية من بينها الديوانية وناحية الإمام في الحلة وناحية الفجر في الناصرية وناحية العزيزية في الكوت يومي 29-30 ج1 1426 المصادف 6-7/7/2005.

([2]) عوائدُ الأيّامِ : 442

([3]) معجم رجال الحديث: 7/227.