القبس/157(أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ) سورة المجادلة:6 - ذنوبٌ قلّما نلتفت إليها

| |عدد القراءات : 103
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ)

موضوع القبس: ذنوبٌ قلّما نلتفت إليها

قال الله تبارك وتعالى (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (المجادلة:6)

الناس بكل مستوياتهم ودرجاتهم في التكامل او التسافل سيبعثهم الله تعالى يوم القيامة ويخبرهم بأعمالهم تفصيلاً كما هي، وسيفاجأون لأنهم كانوا غافلين عما يصدر منهم من قول او فعل (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (ق:22) وكانوا لا يراقبون الله تعالى في افعالهم فوقعوا فيما وقعوا فيه.

لكن الله تعالى احصاه لأنه (عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (الحج:17) (أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) (فصلت:54)، وتؤكد الآية التالية هذه الشهادة وهذه الإحاطة (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (المجادلة:7)، وله شهود من نفس الانسان (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النور:24)، هذا غير الملائكة التي تسجل افعال العباد وبقاع الأرض تشهد على ما جرى عليها وغير ذلك.

وفي الآية طمأنة لمن عمل الطاعات بانها لا تضيع وأنها بعين الله تعالى (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا(الكهف:30) وتحذير لمن عمل المعاصي بانها مسجلة عليه ويحاسب عليها (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة:7-8).

هذه هي الحالة العامة للناس، وقد تخفى بعض الذنوب حتى على المراقبين والملتفتين ونتحدث الان عن حالة وردت في أدعية الصحيفة السجادية وهي إلفات نظر العبد إلى ذنوبٍ يغفل عنها تماماً، فقد يرضى البعض عن نفسه، ويعتقد أنه على خير ما دام قد أدّى الواجبات الرئيسية كالصلوات المفروضة وصيام شهر رمضان ودفع ما بذمته من خمس ونحوه من الحقوق الشرعية، وما دام قد اجتنب المحرّمات الرئيسية كالزنا وشرب الخمر واللواط والسرقة والقتل بغير حق ونحوها.

وهو لعمري خيرٌ كثير أن يلتزم العبد بذلك، لكن حالة الرضا عن النفس حالة غير صحيحة لأنّ أموراً أخرى كثيرة لا يلتفت إليها الإنسان، لكنّها مؤثرة في ميزان أعماله، وقد تقلب هذا الميزان رأساً على عقب باتجاه الفوز أو باتجاه السقوط والعياذ بالله تعالى.

وكلامنا في الحالة الثانية إذ قد يظنّ الإنسان أنه على خير، ولا يعلم ما سوّد به صحائفه، ولا يلتفت إليها أصلاً إمّا لغفلته، أو لجهله بأنّ هذه ذنوب، أو انّه يعلم ذلك ولكنه يتساهل فيها ويقلّل من شأنها وتأثيرها، ولذا ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) التحذير من المحقّرات من الذنوب قال (عليه السلام) (اتقوا المحقرات من الذنوب فإنّها لا تغفر، قلت:وما المحقرات ؟ قال:الرجل يذنب الذنب فيقول:طوبى لي إن لم يكن لي غير ذلك)([1]).

وأعطى رسول الله (صلى الله عليه واله) درساً عملياً في ذلك التأثير لأصحابه كما في الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال (أنّ رسول الله (صلى الله عليه واله) نزل بأرض قرعاء، فقال لأصحابه: ائتوا بحطب، فقالوا:يا رسول الله، نحن بأرض قرعاء! قال:فليأت كلّ إنسان بما قدر عليه. فجاؤوا به حتّى رموا بين يديه، بعضه على بعض، فقال رسول الله (صلى الله عليه واله). هكذا تجمع الذنوب، ثمّ قال:إيّاكم والمحقّرات من الذنوب، فإنّ لكلّ شيء طالباً، ألا وإنّ طالبها يكتب ما قدّموا وآثارهم وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين)([2]).

أقول:هكذا تجتمع الذنوب التي يستصغرها صاحبها ويقدم عليها بلا اكتراث وتترك آثارها عليه حتّى تطبع على قلبه فتورده النار والعياذ بالله.

حُكيَ أنّ أحد التجّار كان يصنع القماش ليبيعه فيعاد عليه لعيب يوجد فيه، ففرّغ نفسه مدة وأتقن صنع القماش لكيلا يرد عليه، وباعه بعد أن تأكّد من سلامته من العيوب، وما لبث أن رجع إليه المشتري وأخبره بعيوب قماشه، فجلس التاجر يبكي والمشتري يطيّب خاطره ويقول له سأقبل القماش ولا أرجعه فلا تتأثّر، لكن التاجر (الواعي) قال:ما لإرجاع القماش أبكي، ولكن أبكي لأعمالي إذا عُرضت على الناقد البصير، كم سيجد فيها من العيوب، وكيف سيردّها عليّ، وما موقفي غداً، إذا كان المخلوق القاصرُ يجد كل هذه العيوب في قماش أتقنت صُنعه.

وقد يبقى الإنسان على غفلته ولا يلتفت منها حتى يأتيه الموت (لقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (ق:22) وقال تعالى(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (المجادلة:6) وقال تعالى (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ) (الأنعام:60).

وقد ذكرنا آنفاً أسباب هذه الحالة، أمّا علاجها فيمكن أن يكون بعدّة إجراءات وردت في الأحاديث الشريفة منها:

1- الإستغفار المستمر وطلب التوبة مما يعلم ومما لا يعلم من الذنوب، وقد وردت دعوات كثيرة يومية للاستغفار في تعقيبات الفرائض اليومية وفي صلاة الليل.

2- أداء الصلاة في أوقاتها لأنّها كفّارة لما بينها ولأن فيها تذكيراً بالله تعالى وعودة إليه (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) (طه:14) وفي الرواية عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال:(قال رسول الله لو كان على باب دار أحدكم نهر فاغتسل في كلّ يوم منه خمس مرّات، أكان يبقى في جسده من الدرن شيء؟ قلنا:لا، قال:فإنّ مثل الصلاة كمثل النهر الجاري، كلّما صلّى صلاة كفّرت ما بينهما من الذنوب)([3]).

3- الإكثار من الطاعات لأن الحسنات يذهبن السيئات، قال تعالى:(إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ) (هود:114) وقال تعالى (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) (الفرقان:70).

4- تجنّب الغفلة لأنّها الأصل في الوقوع بالمعاصي.

5- محاسبة النفس يومياً، لأن المحاسبة والتدقيق والمراجعة تكشف أموراً يغفل عنها لو لم يُجرِ هذه المحاسبة، وهذا معلوم بالتجربة لرجال الأعمال، وفي وصية النبي (صلى الله عليه واله) لأبي ذر (يا أبا ذر لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبة الشريك شريكه)([4]) وعن الإمام الكاظم (عليه السلام) قال (ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حسنا استزاد الله، وإن عمل سيئا استغفر الله منه وتاب إليه)([5])

6- مطالعة كتب الأخلاق والموعظة، وزيادة المعرفة بالله تعالى لأنّها أصل الدين وأساسه.

7- مجالسة الصالحين والتردد على المساجد والمشاهد الشريفة.

8- الاعتراف أمام الله بالتقصير وكثرة الذنوب مما نعجز عن عدّه وإيكال الأمر إلى عفوه ومغفرته وصفحه وإحسانه وكرمه.

وكما أنّ الحسنات يذهبن السيئات، فإنّ بعض السيئات تُذهب الحسنات وتُحرقها، ففي كتاب الأمالي([6])للشيخ الصدوق (قده) بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال:(قال رسول الله (صلى الله عليه واله) من قال سبحان الله غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومن قال الحمد لله غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومن قال لا إله إلا الله غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومن قال الله أكبر غرس الله له بها شجرة في الجنة، فقال رجلٌ من قريش يا رسول الله إنّ شجرنا في الجنة لكثير، قال نعم ولكن إيّاكم أن تُرسلوا عليها نيراناً فتحرقوها، وذلك إنّ الله عزّ وجل يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) (محمد:33) ومن تلك النيران المناسبة للرجل من قريش إنكار ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) وبقرينة الآية التي استدل بها رسول الله (صلى الله عليه واله) الآمرة بطاعة الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه واله)، ومن تلك الذنوب الغيبة فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال رسول الله (صلى الله عليه واله) (الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الآكلة في جوفه)([7]).

وأنقل لكم نصاً من الصحيفة السجادية يلفت نظرنا إلى ذنوب نغفل عنها وهي تتعلق بالعلاقات مع الآخرين، ولك أن تقيس عليها غيرها مما لا يعلمه إلاّ الله تبارك وتعالى، قال (عليه السلام) في الاعتذار من تبعات العباد ومن التقصير في حقوقهم (اللهم إنّي اعتذر إليك من مظلوم ظُلم بحضرتي فلم أنصره، ومن معروف أسدي إليّ فلم أشكره، ومن مسيئٍ اعتذر إليّ فلم أعذره، ومن ذي فاقة سألني فلم أوثره. ومن حقّ ذي حقٍ لزمني فلم أوّفره، ومن عيب مؤمن ظهر لي فلم أستره، ومن كل إثم عرض لي فلم أهجره)([8])، فالسيئات لا تقتصر على ما صدر منه من أمثالها، بل على ما فوّت مما ينبغي فعله، فلا ينشغل الإنسان بالنظر إلى ما قدّم من طاعة أو معروف بين الناس، بل إلى ما كان يجب عليه فعله ولم يفعله. كالشخص يفرح بما أنفق في سبيل الله، ويغفل عن مورد قصده فيه صاحب حاجة وكان قادراً على قضائها فلم يفعل، ووردت في ذلك روايات شديدة كالذي روي عن أبي الحسن(عليه السلام) قال(من أتاه أخوه المؤمن في حاجة فإنّما هي رحمة من الله تبارك وتعالى ساقها إليه، فإن قبل ذلك فقد وصله بولايتنا وهو موصول بولاية الله وإن ردّه عن حاجته وهو يقدر على قضائها سلّط الله عليه شجاعاً من نار ينهشه في قبره إلى يوم القيامة مغفوراً له أو مُعذّباً فإن عذره الطالب([9])كان أسوأ حالاً).([10])

فهذا شكل من السيئات يخفى على الإنسان، مضافاً إلى ما صدر منه فعلاً، ومن دعاء الإمام السجاد (عليه السلام) ليوم الإثنين (وأسألك في مظالم عبادك عندي، فأيّما عبد من عبيدك أو أمةٍ من إمائك كانت له قبلي مظلمة ظلمتها إياه في نفسه أو في عرضه أو في ماله أو في أهله وَولده، أو غيبةٌ اغتبته بها، أو تحامل عليه بميل أو هوى، أو أنفة أو حميّة أو رياء أو عصبية، غائباً كان أو شاهداً، وحيّا كان أو ميتاً، فقصرت يدي، وضاق وسعي عن ردّها إليه، والتحلل منه، فأسألك يا من يملك الحاجات وهي مستجيبة لمشيئته، ومسرعة إلى إرادته، أن تصلّي على محمد وآل محمد وأن ترضيه عني بما شئت، وتهب لي من عندك رحمة)([11]).

وفي ضوء هذه الحقيقة التي لا يلتفت إليها إلاّ الأقلّون، يمكن أن نفهم ما ورد في الحديث الشريف عن النبي (صلى الله عليه واله) قال (لم يعبد الله عز وجل بشيء أفضل من العقل، ولا يكون المؤمن عاقلاً حتى يجتمع فيه عشر خصال)([12]) إلى أن قال (صلى الله عليه واله) (والعاشرة وما العاشرة لا يرى أحداً إلا قال هو خير مني وأتقى)([13]) وقد شرحت بعض فقرات الحديث في محاضرة سابقة.

نسأل الله تعالى أن ينبّهنا من نومة الغافلين المُبعدين بعفوه وكرمه.



([1]،2) وسائل الشيعة كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب 43، حديث 1، 3.

 

([3]) وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب اعداد الفرائض ونوافلها، باب2 ح3.

([4]) وسائل الشيعة (آل البيت): 16/98/ح7

([5] ) وسائل الشيعة : ج ١٦ /ص ٩٥

([6]) أوردها عنه في البحار: 93/ 168.

([7]) أصول الكافي، ج2، باب الغيبة والبهتان، ح1، وفي القاموس المحيط: أنّ الآكلة داء في العضو يأتكل منه.

([8])  الصحيفة السجادية (ابطحي): 187

([9]) قال الشارع: (أي المطلوب منه الحاجة، ووجهه إنه إذا عذره صاحبها لم يندم ولم يتب ولم يستغفر، بل ظن عدم تقصيره في حق الطالب فاجترأ على منع غيره).

([10]) وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب فعل المعروف، باب 25، ح9.

([11]) مفاتيح الجنان: 51

([12]) الخصال- الشيخ الصدوق: 2/433/ح17, وورد: (وقد شرحت بعض فقرات الحديث في محاضرة سابقة) راجع: القبس/143 (لِّيَغفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) (الفتح:2), من نور القرآن: 4/339

([13]) الخصال- الشيخ الصدوق: 2/433/ح17