القبس/167(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) سورة القلم:4 - معجزة النبي (ص) في أخلاقه

| |عدد القراءات : 119
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)

معجزة النبي (صلى الله عليه واله وسلم) في أخلاقه

الآية تخاطب رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وهي تقع ضمن مجموعة من الآيات الكريمة التي يظهر منها أنها نزلت لتسليته (صلى الله عليه واله وسلم) وتطييب خاطره والدفاع عن حريمه المقدَّس بعد الهجمات الشرسة التي شنها عليه طواغيت قريش فرموه بكل وصــف قبيح لتنفير الناس عنه (صلى الله عليه واله وسلم)وعـــــدم الاصغاء اليه(مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ، وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ(القلم:2-3) فالآية تعطيه أعظم المقامات واختار الله تعالى من بينها أن يصفه بهذه الخصلة العظيمة.

وفي الآية تأكيد بعد تأكيد على اخلاقه العظيمة باستعمال (إِنَّ) و(اللام) ثم صيغة الوصف (عَلَى خُلُقٍ) لتدل على رسوخها وثباتها فيه بحيث أنه (صلى الله عليه واله وسلم) تمكّن منها واستعلى عليها وجعلها تحت سلطته وتحولت الى ملكات وسجايا ذاتية، ولو قال (إن لك خلقاً عظيماً) فانها تدل على الاتصاف من دون إفادة الثبات واللزوم إذ ان ما يملك يمكن ان يفقد.

وكيف لا يكون (صلى الله عليه واله وسلم) على هذه الاخلاق العظيمة وقد صنعهُّ ربه بيديه وأدّبه وربّاه وبلغ به الغاية فيما يريد قال (صلى الله عليه واله وسلم) (أدبني ربّي فأحسن تأديبي)([1]) حتى بلغ الكمال، روي عن الامام الصادق (عليه السلام) قوله (إن الله تبارك وتعالى أدبَّ نبيّه (صلى الله عليه واله وسلم) فلما انتهى به الى ما أراد قال الله تعالى له (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)([2]) وفي رواية أخرى عنه (عليه السلام) قال (إن الله عزوجل:أدبَّ نبيه فأحسن أدبه، فلما أكمل له الأدب قال:(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)([3]) وقال تعالى في ذلك (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ(آل عمران:159) فما ناله النبي (صلى الله عليه واله وسلم) كان برحمة الله تعالى وحسن رعايته.

وعنوان حسن الخلق وان كان عاماً يشمل كل الاخلاق الحسنة والسجايا الكريمة، الا انه يطلق غالباً على جزء خاص منها وهو حسن المعاشرة مع الناس ومخالطتهم بالجميل والإحسان وبهذا اللحاظ يذكر حسن الخلق في عرض اخلاق حسنة أخرى رغم أنه يشملها بعنوانه العام كقول الامام الصادق (عليه السلام) (اربع من كنّ فيه كمل ايمانه وإن كان من قرنه الى قدمه ذنوباً لم ينقصه ذلك قال:وهو الصدق وأداء الأمانة والحياء وحسن الخلق)([4]) ولعل مراده (عليه السلام) بقوله (وإن كان) مجرد فرض او المبالغة والا فأن صاحب هذه الخصال لا يكون كذلك لأن كل صفة من الأربع كفيلة بمعالجة الكثير من الذنوب كما هو واضح.

وتشير الروايات أيضاً إلى ان هذا المعنى الذي ذكرناه لحسن الخلق هو المقصود في الآية فقد روى البرقي في بصائر الدرجات عنهم (عليهم السلام) (إن الله أدبّ نبيّه (صلى الله عليه واله وسلم) فأحسن تأديبه فقال (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ(الأعراف:199) فلما كان ذلك انزل الله (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)([5]) .

وروي أيضاً ان رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) كان يمشي ومعه بعض أصحابه فأدركه اعرابي فجذبه جذباً شديداً، وكان عليه بُرد نجراني غليظ الحاشية فأثرّت الحاشية في عنقه (صلى الله عليه واله وسلم) من شدة جذبه، ثم قال:يا محمد هب لي من مال الله الذي عندك، فالتفت اليه رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) فضحك ثم أمر باعطائه، ولما اكثرت قريش اذاه وضربه قال (صلى الله عليه واله وسلم):اللهم اغفر لقومي فأنهم لا يعلمون فلذلك قال الله تعالى (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ([6]) .

ويؤيد كون المراد من الآية هذه الاخلاق وليست كل الاخلاق الحسنة التي اتصف بها رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) أنها الأنسب بسياق السورة التي تقارن بين سلوكه (صلى الله عليه واله وسلم) وسلوك المشركين وعاقبة كل منهما،، قال السيد الطباطبائي (قدس) (والآية وإن كانت في نفسها تمدح حسن خلقه (صلى الله عليه واله وسلم) وتعظمه غير أنها بالنظر الى خصوص السياق ناظرة الى اخلاقه الجميلة الاجتماعية المتعلقة بالمعاشرة كالثبات على الحق والصبر على اذى الناس وجفاء اجلافهم والعفو والاغماض وسعة البذل والرفق والمداراة والتواضع وغير ذلك)([7]) .

أقول:لكن هذا كله لا يقيّد اطلاق اخلاقه وليست كل الاخلاق الحسنة التي اتصف بها رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) العظيمة على جميع المستويات.

وبهذه الاخلاق كسب قلوب الناس فاهتدوا ببركتها الى الإسلام، في الرواية (كان رسول الله أجود الناس كفّاً وأكرمهم عِشرة، من خالطه فعرفه أحبَّه)([8]) وكان اعداؤه قبل اتباعه يعلمون عظمة اخلاق رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم)، لما فتح النبي (صلى الله عليه واله وسلم) مكة ومكّنه الله تعالى من قريش التي اذاقته القتل والتجويع والتهجير والوان الأذى والعذاب (ودخل صناديد قريش الكعبة وهم يظنون أن السيف لايرفع عنهم، فأتى رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) البيت وأخذ بعضادتي الباب ثم قال:لا إله إلا الله أنجز وعده، ونصر عبده، وغلب الاحزاب وحده، ثم قال: ما تظنون؟ وما أنتم قائلون؟  فقال سهيل بن عمرو: نقول خيراً و نظن خيراً، أخ كريم وابن عم، قال: فإني أقول لكم كما قال أخي يوسف: (قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)([9]).

وروى في الكافي بسنده عن الامام الصادق (عليه السلام) قال (نزل رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) في غزوة ذات الرقاع تحت شجرة على شفير واد، فأقبل سيل فحال بينه وبين أصحابه فرآه رجل من المشركين والمسلمون قيام على شفير الوادي ينتظرون متى ينقطع السيل فقال رجل من المشركين لقومه: أنا أقتل محمداً فجاء وشد على رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) بالسيف، ثم قال: من ينجيك مني يا محمد؟ فقال:ربي وربك فنسفه جبرئيل (عليه السلام) عن فرسه فسقط على ظهره، فقام رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وأخذ السيف وجلس على صدره وقال: من ينجيك مني يا غورث فقال جودك وكرمك يا محمد، فتركه فقام وهو يقول:والله لانت خير مني وأكرم)([10]) وقال (صلى الله عليه واله وسلم) (أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحسنكم خلقاً وخيركم لأهله)([11]).

وان أهم الشواهد على عظمة أخلاقه تلقيه هذا الثناء وهذه الشهادة من الخالق العظيم دون ان تضطرب أفكاره أو يفقد اتزان شخصيته او يتملكه عارض غير حسن فتلقى هذا التكريم من ربّه العظيم بنفس مطمئنة راضية متواضعة وقد حفلت كتب السيرة والحديث والتاريخ بشواهد لا تحصى من أخلاقه العظيمة.

إن هذه الاخلاق السامية التي اتصف بها رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) دليلٌ واضحٌ على نبوته ورسالته وانه من صنع الله تعالى فحسب ولم يكن من صنع بيئته وظروفه أو تلقيّه من أحد لأن هذه المسمّيات كلها عاجزة عن انتاج مثل شخصية رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) كانت تلك البيئة والمجتمعات غارقة في الانحراف والفساد والجهل والضلال والتخلف.

إن أخلاق النبي (صلى الله عليه واله وسلم) معجزة يتحدى بها الله تعالى من يدعون من دونه ليأتوا بنسخة مماثلة له (صلى الله عليه واله وسلم) وأنى لهم ذلك، فالآية نظير قوله تعالى (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ(لقمان:11) وهذه اخلاق الله تعالى فما هي أخلاق الذين من دونه؟ بأنهم على النقيض من ذلك، وقد صوّرت السورة بعد أن بيّنت ما عليه رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) من الخلق العظيم والأجر غير المنقطع الذين يتصدون لمقاومته بما يستحقون من الأوصاف القبيحة ونهت عن اتباعهم (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ([12]) مَهِينٍ، هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ، أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ، إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ(القلم:10-16)، وهذه هي اوصاف المستهزئين برسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) أمس واليوم كما هو واضح.

ان اختيار هذه الصّفة في رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) لتمجيدها والثناء عليها دليل على ثقل الاخلاق الحسنة في الميزان الإلهي والأمر كذلك حتى انك لتجد الغرض المطلوب من العقائد  والتشريعات هو الاتصاف بهذه الاخلاق الحسنة وتربية الأمة عليها وقد لُخِّص الغرض في قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(النحل:90) وقد صرّح النبي (صلى الله عليه واله وسلم) بهذا الغرض بقوله (صلى الله عليه واله وسلم) (إنما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق)([13])، ولخّص شريعة الإسلام بالأخلاق الحسنة قال (صلى الله عليه واله وسلم) (الإسلام حسن الخلق)([14]).

وكان (صلى الله عليه واله وسلم) يحث اتباعه على حسن الخلق كأفضل ما يدعو اليه، روي عن الامام الرضا (عليه السلام) قوله (قال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) ما من شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق)([15])، وقال (صلى الله عليه واله وسلم) (إن صاحب الخلق الحسن له مثل أجر الصائم القائم)([16]) ونقل الامام الصادق (عليه السلام) قول جده رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) (أكثر ما تلج به أمتي الجنة تقوى الله وحسن الخلق)([17]) وقال (صلى الله عليه واله وسلم) (ثلاث من لم تكن فيه فليس مني ولا من الله عزوجل، قيل: يا رسول الله وما هنَّ، قال (صلى الله عليه واله وسلم):حِلْمُ يرد به جهل الجاهل، وحُسن خلق يعيش به في الناس، وورع يحجزه عن معاصي الله عزوجل)([18]).

وقال (صلى الله عليه واله وسلم) (أفاضلكم أحسنكم أخلاقاً)([19]) وقال لزوجه ام سلمة (يا أم سلمة ان حسن الخلق ذهب بخير الدنيا والآخرة)([20]).

ان حسن الأخلاق ليس أمراً ترفياً أو كمالياً بل فيه قوام الحياة، قال (صلى الله عليه واله وسلم) (لو يعلم العبد ما في حسن الخلق لعلم أنه محتاج أن يكون له خلق حسن)([21]) وبه سعادة الآخرة كما تقدم في الأحاديث الشريفة مع سعادة الدنيا، قال الامام الصادق (لا عيش أهنأ من حسن الخلق)([22]) وتزداد الحاجة اليه لمن يكون في مواقع المسؤولية على اختلاف درجاتها كرب الأسرة ومدير الدائرة والمعلم في مدرسته والمربي والحاكم وغيرهم، روى الامام الجواد (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بطلاقة الوجه وحسن اللقاء فاني سمعت رسول الله يقول:إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم)([23]) وفي أحاديث أخرى خاطب (صلى الله عليه واله وسلم) بني هاشم بهذا.

وأساس الأخلاق الحسنة الإسلام والايمان بالله تعالى، ففي معاني الأخبار عن الامام الباقر (عليه السلام) في قول الله عزوجل (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) قال:(هو الإسلام)([24]) وروي ان الخلق العظيم هو الدين العظيم([25]) فان النبي (صلى الله عليه واله وسلم) جسّد القرآن وتعاليم الإسلام في حياته فكان أعظم الناس أخلاقاً حتى وصفه الامام الصادق (عليه السلام) قال (كان رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) خلقه القرآن)([26]) وهذا يعني ان طريق الوصول الى المقامات الرفيعة يمرّ من خلال القرآن، وكل شخص يرتفع سهمه من الاخلاق كلما ازداد اتباعاً للقرآن والتزاماً بالإسلام مما يدل على أنَّ الاخلاق التي يدعو اليها الإسلام ليست مقتصرة على الاخلاق الشخصية كالصدق والأمانة والشجاعة والكرم والإحسان ونحو ذلك وإنما يسعى إلى تأسيس منظومة اخلاقية اجتماعية متكاملة تؤسس لمنهج عادل قويم يحفظ كرامة الانسان ويكفل له سعادته.

ومن هنا ينفتح الحديث عن الاخلاق الاجتماعية أي اخلاق الأمة كأمة غير اخلاق الأفراد كأفراد ويجعل الأمة كلها مسؤولة عنها ومن تلك الاخلاق، القيام بواجبات المواطنة وحفظ مصالح الدولة والشعب وحقوق الأقليات والتكافل والتعاون على البِّر والتقوى والعدالة الاجتماعية والتناصح والتواصي بالحق والصبر والمرابطة في ثغورها وتحصين الأمة فكرياً وعقائدياً وثقافياً وسلوكياً والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى رأس الاخلاق الاجتماعية إقامة الدين وحفظ وحدة الأمة وتماسكها (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ(الشورى:13) وقد سمّينا في بعض بحوثنا مثل هذه الواجبات بالواجبات الاجتماعية في مقابل مصطلح الوجوب الكفائي([27]) الذي يردده المشهور وشرحنا الوجه في ذلك.

ان سلوك الانسان وعاداته وصفاته قابلة للإصلاح والتغيير فليس صحيحاً ما يقال من انها غير قابلة لذلك وإن الانسان مسيَّر وفق ما جبلت عليه نفسه، قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ(الرعد:11) ولذا تواترت الأنبياء والرسل لهداية الخلق وإصلاحهم، وألفّ العلماء كتباً في تهذيب الأخلاق واودعوها برامج في سلوك هذا الطريق، نقل العلامة المجلسي (قدس) عن الراواندي (رحمه الله) قال (الخلق السجيّة والطبيعة ثم يستعمل في العادات التي يتعودها الانسان من خير أو شر، والخُلق ما يوصف العبد بالقدرة عليه، ولذا يُمدَح ويُذّم، ويدل على ذلك قوله (صلى الله عليه واله وسلم) خالق الناس بخلق حسن)([28]).

إن مساحة الأخلاق الحسنة كلما اتسعت في المجتمع فانها تعود بالخير على الجميع، وقد يمنّ الله تعالى على اعدائه ببعض الاخلاق الحسنة لمصلحة اوليائه ففي الكافي ان الامام الصادق (عليه السلام) قال (ان الله عزوجل أعار اعدائه اخلاقاً من اخلاق اوليائه لتعيش اولياؤه مع اعدائه في دولاتهم، وفي رواية أخرى:ولو لا ذلك لما تركو ولياً لله عزوجل الا قتلوه)([29]).

تطبيق:معجزة لرسول الله (صلى الله عليه واله) تبيّن أخلاقه

روى لنا أمير المؤمنين (عليه السلام) معجزة تحققت لرسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وكان شاهداً عليها، نذكرها تبركاً وإحياءاً لهذه المنقبة العظيمة ولنأخذ منها بعض الخصائص النفسية والسمو الأخلاقي عند رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم)، فمن خطبة جليلة لأمير المؤمنين(عليه السلام) تسمى القاصعة قال (ولَقد كُنتُ مَعَهُ(عليهما السلام) لَمَّا أتاهُ المَلأُ مِن قُرَيشٍ، فَقالوا لَهُ: (يا مُحَمَّدُ، إنَّكَ قَدِ ادَّعَيتَ عَظيما لَم يَدَّعِهِ آباؤكَ، ولا أحَدٌ مِن بَيتِكَ، ونحنُ نَسألُكَ أمرا إن أنتَ أجَبتَنا إلَيهِ، وأرَيتَناهُ عَلِمنا أنَّكَ نَبِيٌّ ورسولٌ، وإن لَم تَفعَل عَلِمنا أنَّكَ ساحِرٌ كَذَّابٌ). فَقالَ(صلى الله عليه واله وسلم): (وما تَسألونَ؟) قالوا: (تَدعو لَنا هذهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى تَنقَلِعَ بِعُروقِها وتَقِفَ بَينَ يَدَيكَ)، فَقالَ(عليهما السلام): (إنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَي‏ءٍ قَديرٌ، فَإن فَعَلَ اللّهُ لَكُم ذلِكَ أتُؤمنونَ وتَشهَدونَ بِالحَقِّ؟) قالوا: (نَعَم). قالَ:(فَإنِّي سَأُريكُم ما تَطلُبونَ، وإنِّي لَأعلَمُ أ نَّكُم لا تَفيؤونَ إلى خَيرٍ، وإنَّ فيكُم مَن يُطرَحُ فِي القَليبِ، ومَن يُحَزِّبُ الأحزابَ) ثُمَّ قالَ(عليهما السلام): (يا أيَّتُها الشَّجَرَةُ إن كُنتِ تُؤمنينَ بِاللّهِ وَاليَومِ الآخِرِ، وتَعلَمينَ أنِّي رَسولُ اللّهِ، فَانقَلِعي بِعُروقِكِ حَتَّى تَقِفي بَينَ يَدَيَّ بِإذنِ اللّهِ!).

فَوَالَّذي بَعَثَهُ بِالحَقِّ لَانقَلَعَت بِعُروقِها، وجاءَت ولَها دَوِيٌّ شَديدٌ، وقَصفٌ كَقَصفِ أجنِحَةِ الطَّيرِ، حَتَّى وَقَفَت بَينَ يَدَي رَسولِ اللّهِ(عليهما السلام) مُرَفرِفَةً، وألقَت بِغُصنِها الأعلى عَلى رَسولِ اللّهِ(عليهما السلام)، وبِبَعضِ أغصانِها عَلى مَنكِبي، وكنتُ عَن يَمينِهِ(عليهما السلام). فَلَمَّا نَظَرَ القَومُ إلى ذلِكَ قالوا عُلُوَّا وَاستِكبارا: (فَمُرها فَليَأتِكَ نِصفُها ويَبقى نِصفُها)، فَأمَرَها بِذلِكَ، فَأقبَلَ إلَيهِ نِصفُها كَأعجَبِ إقبالٍ وأشَدِّهِ دَوِيَّا، فَكادَت تَلتَفُّ بِرَسولِ اللّهِ(عليهما السلام)، فَقالوا كُفرا وعُتُوَّا:(فَمُر هذا النِّصفَ فَليَرجِع إلى نِصفِهِ كَما كانَ، فَأمرَهُ(عليهما السلام) فَرَجَعَ،  فَقُلتُ أنا: (لا إلهَ إلا اللّهُ، إنِّي أوَّلُ مُؤمنٍ بِكَ يا رَسولَ اللّهِ، وأوَّلُ مَن أقرَّ بِأنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَت ما فَعَلَت بِأمرِ اللّهِ تَعالى تَصديقا بِنُبُوَّتِكَ، وإجلالا لِكَلِمَتِكَ)، فَقالَ القَومُ كُلُّهُم: (بَل ساحِرٌ كَذَّابٌ، عَجيبُ السِّحرِ خَفيفٌ فيهِ، وهَل يُصَدِّقُكَ في أمرِكَ إلا مِثلُ هذا؟) (يَعنونَني)([30]).

ما الذي نستفيده؟

أقول:مما نستفيده منها باختصار:-

1-     أدبه (صلى الله عليه واله وسلم) مع ربه تبارك وتعالى ومعرفته التامة بالله تعالى وأنه لا يملك شيئاً أمام ربّه وأنّه (لا حول ولا قوة إلا بالله العلـي العظيـم) فيقـول للمشركين لما سألوه (فإن فعل الله لكم ذلك) ولم ينسب الفعل إلى نفسه فما من شيء يتحقق له إلا بلطف الله تعالى وفضله وكرمه، بعكس منطق الغافلين والبعيدين عن الله تعالى فإنّهم يرون لأنفسهم شيئاً ويتبجحون به ويتفاخرون ويطغون، كما حكى الله تعالى عن قارون قوله (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) (القصص:78)، ويأتي التعليق الإلهي (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) (القصص:78).

والقرآن الكريم حرص كثيراً على ترسيخ هذه المعرفة قال تعالى (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى) (الأنفال:17) وقال تعالى في فرعون وقومه (فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ،وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ) (الشعراء:57-58) مع أن فرعون وجيوشه هم الذين قرروا الخروج لكن بتدبير إلهي.

2-     عدم اليأس من هداية الناس والدعوة إلى الله تبارك وتعالى وإصلاح الأمة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوعظ والإرشاد والتوجيه، حتى لو كان يعلم بعناد الآخر وإصراره على الخطأ فيقول (صلى الله عليه واله وسلم) (وإني لأعلم أنكم لا تفيئون إلى خير) فلم يتوقف ويقول ما الفائدة من دعوة هؤلاء وهم لا يُرجى منهم خير؟ لأن الأمور والنتائج والعواقب بيد مدبّرها الحقيقي، وليس على الإنسان إلا السعي الحثيث بكل ما أتاه الله تعالى، وقد مدح الله تعالى قوماً وأنجاهم من العذاب لأنّهم لم يتقاعسوا عن أداء وظائفهم الإلهية مع اليأس ظاهراً من هدايتهم، قال تعالى (وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (الأعراف:164).

3-     اعتماد لغة الحوار والحجة والبينة مع الآخر لتحصيل القناعة بالأمر وعدم إكراههم على شيء أو استخدام وسائل العنف والضغط لإجبارهم على اعتناق ما تـعتقد به، ولو كنت تملك القوى الخارقة الغيبية، وهذا هو منطق القرآن الكريم (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة:256) (اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (الأحقاف:4).

4-     قساوة القوم الذين بُعث لهم رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وهمجيتهم بحيث يجري لهم كل هذه المعجزات وهم يصرّون على عنادهم واستكبارهم قال تعالى فيهم (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ) (البقرة:74) وقلوب أولئك كانت من القسوة بحيث لم تسمح بتفجير شيء من ينابيع المعرفة والإيمان فيها، فالجبل يتصدع من هذه الكلمات وهم موتى لا حراك فيهم (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) (الحشر:21) وإلى اليوم نرى مثل هؤلاء الأقوام الذين تقام عليهم الحجج والبيّنات الدامغة، ولا جواب لهم إلا العناد والاستكبار والمضي على منهجهم المنحرف ومثل هؤلاء أتذكرهم عندما أصل إلى قوله تعالى (أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (البقرة:75).

5-     شفقة رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) التي لا حدود لها وقلبه الكبير بحيث لا يتوانى عن تقديم أي عمل ما دام يُرجى منه صلاح الآخرين وهدايتهم رحمةً بهم لانقاذهم مما هم فيه من الضلال حتى لو كانوا من أسوأ خلق الله تعالى وأقساهم فلم يكن (صلى الله عليه واله وسلم) كأسلافه الصالحين من الأنبياء الذين دعوا على أقوامهم بالهلاك (لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً) (نوح:26) وغاية ما كان يقول (صلى الله عليه واله وسلم) عندما يصيبوه بالأذى والتكذيب (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)([31]) ولم يثنه (صلى الله عليه واله وسلم) عن المضي معهم استهزاؤهم وسخريتهم الواضحة من مطلبهم التعجيزي وكأنهم يتهكمون برسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) ويسفّهون دعوته.

إن وجود مثل هذا القلب الشفيق الرحيم خير حافز على العمل الإنساني النبيل، وهو موجود لدى الكثيرين ولكنه يحتاج إلى تحريك وإثارة والدليل على ذلك انه عندما يوجد انسان مبتلى أو مصاب بنكبة أو عاهة أو معدم يحتاج إلى مساعدة فإن الكثيرين تهتز قلوبهم بالشفقة والرحمة ويهبون لنجدته ومساعدته، وهذا عمل عظيم ولكن أليس أهم منه أن نهَّب لهداية الضّال وفاقد البصيرة والمنحرف والجاهل وهؤلاء أولى بالمساعدة والشفقة والرحمة، لأن حياتهم الباقية الدائمة في خطر، وهي أهم من حياتهم الدنيا.

6-     والدرس الأخير نأخذه من أمير المؤمنين (عليه السلام) بروايته لهذه المنقبة النبوية الشريفة، ولعلها كانت تضيع علينا لو لم ينقلها لنا أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلنتعلم منه أن لا نبخل على الناس بما نتعلمه من مسألة شرعية أو موعظة أو نصيحة أو منقبة وفضيلة لأهل البيت (عليهم السلام) أو شيء من سيرتهم الصالحة وأخلاقهم السامية، أو كلمات العلماء ومواقفهم ومآثرهم وبذلك تنتشر الهداية ويزكو العلم والعمل الصالح وينمو ففي الحديث (العلم يزكو بالإنفاق)([32]).

 



([1]) مجمع البيان: 10/50، بحار الأنوار: 68/382

([2]) أصول الكافي: 1/266

([3]) أصول الكافي: 1/266

([4]) أصول الكافي: 2/99، ح3 باب حسن الخلق.

([5]) بصائر الدرجات: 378

([6]) تنبيه الخواطر: 1/99

([7]) الميزان في تفسير القرآن: 19/385

([8]) بحار الأنوار: 16/231

([9]) بحار الأنوار: 21/132

([10]) الكافي: 8/ 127 ح 97 ، بحار النوار: 20/ 179 ح 6.

([11]) عيون اخبار الرضا (عليه السلام): 2/38.

([12]) (حَلَّافٍ) كثير الحلف واليمين (مَهِينٍ) وضيع ضعيف الرأي حقير، (هَمَّازٍ) طعّان في اعراض الناس عيّاب (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) يمشي بالنميمة بين الناس فيفرّق بينهم ويلقي العداوة والبغضاء (مَنَّاعٍ) ممسك عن الانفاق بخيل (مُعْتَدٍ) ظالم متجاوز الحدود (أَثِيمٍ) كثير الأثم والخطايا (عُتُلٍّ) غليظ جافي (زَنِيمٍ) دعيّ لا يُعرف أبوه.

([13]) مجمع البيان: ج 10ص 500

([14]) كنز العمال: 5225، ميزان الحكمة: 3/133

([15]) عيون أخبار الرضا: ٢ : ٣٧ / ٩٨

(16) و(17) أصول الكافي: 2/100 ح 4، 6 باب حسن الخلق.

(18) الخصال: 145 ح 172

 ([19]) تفسير البرهان: ح 9 ، عن تفسير علي بن ابراهيم

([20]) الخصال: 1/42

([21]) بحار الأنوار: 10 / 369 ح 20

([22]) علل الشرائع: 560/ ح1 ، ميزان الحكمة: 3/134

([23]) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) : 2/53، امالي الصدوق: 362/ المجلسي 68 ح 9

([24]) معاني الأخبار: 1/188

([25]) تفسير البرهان: 3/237 ح 25 عن تفسير علي بن ابراهيم

([26]) تنبيه الخواطر: 72، ميزان الحكمة: 3/135

([27]) راجع: فقه الخلاف: 8/159, ط. الثانية

([28]) بحار الأنوار: 71/ 374

([29]) الكافي: الجزء :2ص:101

([30]) نهج البلاغة: 2/412 الخطبة/ 190.

([31]) إقبال الأعمال- الشيخ الصدوق: 385

([32]) البحار: ج75 ص76.