القبس/168(وَدُّواْ لَوۡ تُدۡهِنُ فَيُدۡهِنُونَ) سورة القلم:9- لا مساومة على المبادئ الحقّة

| |عدد القراءات : 101
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

 (وَدُّواْ لَوۡ تُدۡهِنُ فَيُدۡهِنُونَ)

موضوع القبس:لا مساومة على المبادئ الحقّة

تكشف الآية الكريمة لرسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) عن خدعة يتخذها الكفار والمشركون والمكذبوّن كأسلوب لمواجهة دعوته المباركة وإيقاف انتشارها وذلك من خلال سعيهم بكل رغبة واهتمام إلى أن تداهنهم([1]) وتتوصل معهم إلى انصاف حلول - كما يقال - ترضيهم ويرضونك فتتنازل عن بعض مبادئك وتقبل بواقعهم الفاسد والمنحرف مقابل ان يعترفوا بك وبألهك ورسالتك ويخففّوا من ضّغطهم عليك أو يتقاسمون معك المنافع والامتيازات.

وقدّموا عروضاً في ذلك  كقول عتبة بن ربيعة ( يا ابن أخي إنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرّقت به جماعتهم، وسفّهت به احلامهم، وعبت به ألهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من أبائهم فاسمع مني اعرض عليك اموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها، قال:فقال له رسول الله  (صلى الله عليه واله وسلم):قل أبا الوليد أسمع، قال:يا ابن أخي:إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من اموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تريد به شرفاً سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وان كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا)([2]).

وفي مرة أخرى جاءه مجموعة من اسياد قريش وطواغيتهم فقالوا ( يا محمد هلم فلتعبد ما نعبد ونعبد ما تعبد، ولنشترك نحن وانت في امرنا كله، فإن كان الذي نحن عليه أصح من الذي أنت عليه كنت قد أخذت منه حظاً، وإن كان الذي أنت عليه أصح من الذي نحن عليه كنّا قد أخذنا منه حظاً)([3]).

وكان الرد الحاسم على مثل هذه المحاولات في الآية السابقة عليها (فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) (القلم:8) وفي سورة الكافرون (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) (الكافرون:1-2) وفي آية أخرى (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ) (المائدة:49) فقطع عليهم كل طرق المساومة والمداهنة رغم انه (صلى الله عليه واله وسلم) كان في اصعب الظروف واحلكها ويعاني الوان الألم والتضييق والتجويع والتعذيب والقتل.

ويتوجه أهل الباطل إلى هذا الأسلوب بعد أن يعجزوا عن القضاء على الحق وتطويقه ومنع الناس من اتباعه ويصبح امراً واقعاً لا يستطيعون الغاءه فيلجأون إلى المساومة وعقد الصفقات ويتخذون مختلف الوسائل لدفع أهل الحق للقبول بهذه المساومة فيهددونهم بالقتل والتجويع تارة أو يطمعوّنهم تارة أخرى أو يبثوا عليهم الاشاعات بإعلام قوي فاعل للضغط عليهم نفسياً وعزلهم اجتماعياً أو التأثير على اتباعهم لينفضّوا عنهم.

وهم بذلك يحصلون على أكثر من هدف:

1- كسب الشرعية لباطلهم من دون ان يخسروا شيئاً لان ما عندهم أوهام وضلالات ودنيا زائفة لذلك فانهم يريدون منك المداهنه اولاً لانهم مستعدون لكل شيء يحفظ مصالحهم كلها او بعضها.

2- اسقاط أهل الحق في أعين اتباعهم حين يتنازلون عن بعض مبادئهم وإظهارهم منافقين يبتغون الدنيا بالدين.

وفي هذا الادب الإلهي لنبيه الكريم (صلى الله عليه واله وسلم) درس لكل الرساليين وأصحاب المبادئ أن يحافظوا على استقامتهم ويتمسكوا بالحق الذي امنوا به وساروا عليه ولا ينساقوا وراء المطامع فيدخلوا في صفقات مع أهل الباطل، وهذا الامتحان جارٍ في كل حقول الحياة ولا يختص بمجال العقيدة فيشمل السياسة والتجارة والعمل الوظيفي وأصحاب المهن فكل هؤلاء وغيرهم يتعرضون لهذه المساومات وطلب المداهنة على حساب المبادئ والاستقامة وحتى الزعامات الدينية أيضاً فانهم معرضون لهذا الابتلاء وحينئذٍ يمتاز أهل المبادئ حقاً الذين لا يساومون عليها عن الذين يتاجرون بها ويضحّون بها في اول مغنم يعرض عليهم، فيصبحون العوبة بيد أهل الباطل يسيرّونهم وفق اغراضهم، لا يفرّق في ذلك بين رجال الدين او غيرهم.

وكثيرةً هي التحالفات التي وقعت بين الحكومات الجائرة والسلطة الدينية فالثاني يوفر للأول الغطاء الشرعي ويمكّنه من رقاب الناس ويوفر الأول للثاني الامتيازات والمنافع والجاه والنفوذ ويقف الاثنان معاً متحدين في مواجهة العاملين الرساليين الذين يريدون ايقاظ الأمة وتوعيتها وتوجيهها نحو الصلاح، والمشكلة جارية حتى على صعيد الافراد فانهم يفضلّون الزعامات الدينية التي تؤمّن لهم هذه المصالح والامتيازات وتغضّ الطرف عن انحرافاتهم ومظالمهم مقابل ما يوصلون اليهم من أموال يفضّلونهم على القيادات الرسالية التي تنصحهم وتبيّن لهم عيوبهم ولا تداهنهم ولا تجاملهم، وهذا انحراف كبير في ثقافة الأمة وتديّنها لذا كان القرآن الكريم حازماً في رفض هذه الحالة (لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) (المائدة:63).

فالدرس الذي أخذناه من النبي (صلى الله عليه واله وسلم) والقرآن الكريم أن لا مساومة على المبادئ الحقة وسار على هذا النهج الائمة المعصومون (عليهم السلام) لذا نجد في صفاتهم التي تسجّلها نصوص زياراتهم (ولا لأحداً فيك مطمع).



([1]) أي تلاطفهم وتلاينهم وتكون مرناً معهم، مأخوذة من الدهن الذي يليّن الاجسام الصلبة ويسّهل حركتها ويستعمل لفظ المداهنة في الحالة المذمومة.

([2]) سيرة ابن هشام: 1/293

([3]) الدر المنثور: 8/655