القبس/172(وَيُطۡعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ) سورة الإنسان:8

| |عدد القراءات : 99
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

القبس/172

 

سورة الإنسان:8

 

Pإِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُوراً O

 

قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: Pوَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُوراًO (الإنسان: 8-9).

  الآية حلقة من سلسلة آيات نزلت في أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين (سلام الله عليهم) في حادثة مشهورة لدى الفريقين، وعدَّ المرحوم الأميني في كتاب الغدير([1]) (34) ممن أوردها من علماء السنة، وألّف الحافظ أبو محمد العاصمي كتاباً في مجلدين أسماه (زين الفتى في شرح سورة هل أتى) ووصف الآلوسي في روح المعاني خبر الواقعة بأنه مشهور.

وخلاصة الحادثة في مصادر العامة كما أوردها العلامة الأميني (قدس سره) عن ابن عباس قال إن الحسن والحسين مرضا فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس معه فقالوا:

يا أبا الحسن؟ لو نذرت على ولدك فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما إن برئا مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام.

فشفيا وما معهم شيء، فاستقرض علي من شمعون الخيبري اليهودي ثلاث أصوع من شعير، فطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد؟ مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة.

فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلا الماء وأصبحوا صياماً، فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه، ووقف عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك، فلما أصبحوا أخذ علي رضي الله عنه بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال: ما أشد ما يسوؤني ما أرى بكم؟! وقام فانطلق معهم، فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها، وغارت عيناها، فساءه ذلك فنزل جبريل وقال: خذها يا محمد؟ هنأك الله في أهل بيتك، فأقرأه السورة.

وحاول البعض التشكيك في نزولها في علي وأهل بيته (^) رغم شهرتها وكثرة مصادرها، ومما قالوه: أن السورة مكية والحادثة وقعت في المدينة بعد زواج أمير المؤمنين وولادة الحسنين (‘) وجوابه من وجوه:

1- إن هذا الإشكال شبهة مقابل البديهة لتواتر النقل من الفريقين على ما ذكرنا من سبب النزول.

2- عدم الوثوق بالأخبار الدالة على مكية السورة مع كثرة الروايات الدالة على نزولها في المدينة([2]).

3- وجود الدليل على العكس أي مدنية السورة، لوجود ذكر الأسير فيها، ولم يكن للمسلمين أسرى في مكة بل كانوا قلة مستضعفين وإنما قويت شوكتهم وأصبح لديهم أسرى في المدينة.

4- ولو تنزلنا فان مكية السورة لا ينافي كون بعض آياتها مدنية وهي ثمانية عشرة آية ذات سياق واحد، تبدأ من قوله تعالى {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} (الإنسان: 5) وتنتهي عند الآية الثانية والعشرين {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} (الإنسان: 22).

وقد دلّت عدة روايات من الفريقين على ان السورة مدنية وأنها نزلت في هذه الواقعة، كالرواية السابقة وفيها تهنئة رسول الله (’) لأمير المؤمنين (×) بأهل بيته، ومنها ما دل على خصوص الآيات المذكورة كرواية للمفيد في الاختصاص بسنده إلى رسول الله (’) وفيها قوله مخاطباً أمير المؤمنين (×): (هل عملت شيئاً غير هذا فإن الله قد أنزل عليَّ سبع عشرة آية يتلو بعضها بعضاً، من قوله: {إن الأبرار} إلى قوله: {وكان سعيكم مشكوراً}([3]).

ولشهرة الخبر فقد نظمها الشعراء في قصائدهم، ومنها قول الوزير الصاحب بن عباد: وسائلٍ هل أتى نصٌّ بحق علي قــلت {هل أتى} نص بحق علي([4])

روى في المناقب بسنده عن الإمام الحسن المجتبى (×) أنه قال: (كل ما في كتاب الله عز وجل من قوله {إنَّ الأبرار} فوالله ما أراد به إلا علي بن أبي طالب وفاطمة وأنا والحسين؛ لأنّا نحن أبرار بآبائنا وأمهاتنا، وقلوبنا عملت بالطاعات والبر، ومبرأة من الدنيا وحبّها، وأطعنا الله في جميع فرائضه وآمنّا بوحدانيته وصدّقنا برسوله)([5]).

ونحن لا نريد بهذا القبس الاكتفاء بالتذكير بهذه المنقبة لأمير المؤمنين (×) وفاطمة والحسن والحسين (^) مع ما له من الفضل والأهمية، لكن الأجدى تربوياً أن نستلهم الدروس والعبر من هذه الوقائع، ومنها: -

1- كرامة الإنسان في الإسلام و لزوم احترامه والإحسان إليه حتى لو كان مشركاً كأسير الحرب مع الدولة النبوية الكريمة، فلم يتخذ النبي (’) سجناً لأسراه وإنما كان يوزّع الأسرى على المسلمين ليحافظوا عليهم ويحسنوا إليهم حتى يجعل الله تعالى لهم فرجاً، وورد في ذلك قوله (’): (استوصوا بالأسرى خيراً)([6])، (وقد كان يؤتى الرسول (’) بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول: أحسن إليه، فيكون عنده اليومين والثلاثة فيؤثره على نفسه)([7])، وإذا لم يجد الأسير ما يحفظ كرامته عند مضيفه فتعطى حريته ويذهب لينال ما يريد، ويختار. ومنها ما في هذه الحادثة؛ لذا قصد هذا الأسير دار علي وفاطمة (‘) لما بلغهُ من إيثارهما على أنفسهما وتكريمهما السائل والمحتاج.

2- الأولوية والأهمية التي يحظى بها إطعام المحتاجين والمعوزين من بين أعمال البر الكثيرة، وقد أشير إليه في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة كثيرا، قال تعالى {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} (البلد:11 - 16)، روي عن النبي (’) قوله: (من أطعم ثلاث نفر من المسلمين أطعمه الله من ثلاث جنان في ملكوت السماوات: الفردوس وجنة عدن وطوبى [ و ] شجرة تخرج من جنة عدن، غَرسَها ربنا بيده)([8])، والحديث مطلق ولم يقيّد المدعوّين للطعام بكونهم فقراء أو محتاجين، وهذا يعني أن الإطعام مستحب بغض النظر عن كون الآكلين ذوي حاجة، لما فيه من تقوية أواصر المحبة والموّدة وانفتاح النفوس على بعضها وزوال ما بينها من شحناء وبغض.

وعن الإمام الصادق (×) قال: (من أطعم مؤمناً حتى يشبعه لم يدر أحدٌ من خَلْق الله ما له من الأجر في الآخرة لا ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا الله رب العالمين)([9]).

وعنه (’) قال: (من أفضل الأعمال عند الله إبراد الكباد الحارة وإشباع الكباد الجائعة)([10]) وهو حديث مطلق يشمل كل ذي كبد حتى الحيوانات، وتعززه روايات أخرى ففي بعضها أن أمرأة فاسقة غفر لها لأنها سقت قطة عطشى ماءً، وقد تضمّنت تتمة الحديث تهديد المقصر في ذلك قال (’): (والذي نفس محمد بيده لا يؤمن بي عبد يبيت شبعاناً وأخوه- أو قال جاره- المسلم جائع).

ولو التزمت البشرية بهذه التوصيات لما مات ملايين البشر جوعاً بينما تتلف دول الغرب المترفة آلاف الأطنان من الأغذية لعباً وعبثاً كمهرجان الترامي بالطماطم والبرتقال وذرّ الطحين والتزحلق بالرقّي في بعض دول أوربا، أو يتلفون كميات كبيرة منها للمحافظة على الأسعار ونحو ذلك، وقد لخّص امير المؤمنين (عليه السلام) هذه المشكلة بقوله (مَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلَّا بِمَا مُتِّعَ بِهِ غَنِيٌّ)([11]) وقرأت في بعض المصادر أن باحثاً غربياً حصل على شهادة الدكتوراه بأطروحة تشرح هذه الكلمة النورانية.

3- ويمكن أن يتوسع معنى الأسير ليشمل كل محتاج إلى رعاية غيره وإعالته مادياً، كالمروي عن النبي (’) في المَدِين لغيره: (غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك) ([12])، ومنهم عيال الرجل وأسرته عن الإمام الكاظم (×) قال: (ينبغي للرجل ان يوسع على عياله لئلاّ يتمنوا موته وتلا هذه الآية {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} قال: الأسير عيال الرجل ينبغي له إذا زيد في النعمة أن يزيد أُسرَاءه في السَعة عليهم)، ثم قال: (إن فلاناً أنعم الله عليه بنعمة فمنعها أسراءه وجعلها عند فلان فذهب الله بها، قال الراوي: وكان فلان حاضراً)([13]).

وروي عن النبي (’) قوله: (اتقوا الله في النساء فأنهن عندكم عوانٍ)([14]) أي أسراء، فإن العاني هو الأسير([15])، وهكذا تشمل التوصية بالأسرى خيراً كل من كان راعياً لغيره في مؤسسة أو دائرة أو كيان ونحو ذلك.

ويتوسع المعنى إلى الحاجة المعنوية([16]) أيضاً فكل مَن هو في حاجة إليك أخلاقياً وفكرياً وعقائدياً واجتماعياً فهو أسيرك وأنت مأمور بإكرامه والإحسان إليه، لذا قال أهل المعرفة أن حبس الحكمة عن مستحقها ظلم له وأعطاءها لغير مستحقها ظلم لها([17])، وهذا المعنى قد ورد في اليتيم في الأحاديث الشريفة وقد تناولناها في كلمة سابقة([18]).

4- إن الإطعام حصل {على حبّه} أي رغم وجود الحب للطعام لا من جهة نهم الأكولين والميّل الشهوي والتلذذ به فإن علياً وفاطمة والحسنين (^) أبعد ما يكونون عن ذلك، وهم المخلَصون لله تبارك وتعالى الذين لا سلطان لشيء غير الله تعالى عليهم، بل لحاجتهم إليه بحسب ما وصفتهم الروايات في الحادثة كما ذكرناها، ولأنهم يريدون التقوّي به على الصوم وسائر أفراد طاعة الله تعالى. ولكنهم آثروا الثلاثة على أنفسهم وقدّموا ما يريده الله تعالى على ما تريده نفوسهم؛ لأنهم يرون أنفسهم عبيداً خالصين لله تبارك وتعالى، ولا يملكون لها خياراً ولا إرادة ولا فعلاً إلا لله تعالى فأخلصوا العبودية لله تعالى مما أكسب فعلهم قيمة أكبر.

ويمكن أن يكون معنى حبّه: حسنه وأفضليته وطيبه ليكون أدعى للقبول قال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران:92) أي من أفضل ما عندكم وأحسنه الذين تحبّونه لأنفسكم، وقد كانت هذه الأرغفة أفضل ما يتوفر لديهم (صلوات الله عليهم أجمعين).

ولم يستسغ بعضهم ارجاع الضمير في حبه إلى الطعام لان أهل البيت (عليهم السلام) أجلّ من الوقوع في شهوة البطن فأرجع الضمير الى الله تبارك وتعالى، ولكنه تصرّف خلاف ظاهر السياق ولا يوجد ما يبررّه، ولأن هذا المعنى سيأتي في الآية اللاحقة Pإِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِO(الانسان:9)، ولأن الضمير لو كان عائداً إلى الله تعالى لكان الأولى التعبير (في حبّه)، ولعدم الغرابة في عودة الضمير إلى الطعام بعد الذي ذكرناه، وقد روى البرقي في المحاسن بسند صحيح عن الإمام الرضا (×) في هذه الآية قال الراوي: (قلت: حب الله أو حب الطعام؟ قال: حب الطعام)([19])، فهذا الإيثار الذي صاحب فعلهم (صلوات الله عليهم أجمعين) والمتصف بكونه مما يحبّون هو المنشأ الأول لإعطائه هذه القيمة الكبرى بحيث تنزّل فيهم سورة مباركة تتلّى إلى نهاية الدنيا، مع أنه فعل بسيط في نفسه لا يعدو إنفاق خمسة أرغفة من شعير وليس من حنطة.

5- والمنشأ الثاني والاهم الذي اعطى فعلهم (صلوات الله عليهم اجمعين) القيمة العظمى أن إطعامهم كان خالصاً لله تعالى وطلباً لمرضاته {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} (الإنسان:9) فهم يتعرّضون بإعمالهم الصالحة لصفاته الكريمة آملين رضا الله تبارك وتعالى، فإن الوجه ما يستقبل به، وهذه هي الغاية الباعثة على الفعل، ولم يبتغوا شكر المعطى وثناءه ولا جزاءً منه، ولو كان العطاء مشروطاً بالجزاء -وهو ما يقابل الفعل بما يعادله- لحُرِم كثيرُ من المحتاجين لعدم امتلاكهم الجزاء، ولو كان مشروطاً بالشكر للزم منه توهين المعطى وإذلاله { قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ } (البقرة: 263 }.

فلكي يكون الإطعام وكل إنفاق وفعل معروف طيباً هنيئاً لمن يصل إليه لا بد أن يكون مجرداً من طلب الجزاء أو الشكر، كإطعام عليٌ (×) وأهل بيته فقد كان إطعامهم خالصاً لوجه الله لا يبتغون عليه جزاءً لا في الدنيا ولا في الآخرة بجلب ثواب أو دفع عقاب، لان عبادتهم عبادة أحرار، وليست كفعل التجار الذين يعبدون الله طمعاً في جنته ولا العبيد الذين يعبدون الله خوفاً من ناره، بحسب التقسيم المنسوب الى أمير المؤمنين (×) لعبادة الناس، ومن كلماته المشهورة (إلهي ما عبدتك خوفاً من عقابك، ولا طمعاً في ثوابك، ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك)([20]).

وقد حصرت الآية القصد من فعلهم (صلوات الله عليهم) بإرادة وجه الله تعالى خالصاً باستعمال أداة الحصر (إنما)، أمّا ما ورد في الآية التالية {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} (الإنسان: 10) فهو لا ينافي قصد وجه الله تعالى لأنه خوف ليس مستقلاً عنه حتى يدخل في عبادة العبيد، بل خوف البعد عنه تبارك وتعالى والخوف من اعراضه سبحانه وعدم نيل رضاه وبلوغ كمال معرفته، فوصِف اليوم بهذه الاوصاف.

6- لم يسبق قولهم {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً} (الإنسان:9) بكلمة (قالوا) وهذا يعني أنهم لم يقولوا هذا الكلام للثلاثة المطعمين وهذا الاستظهار يناسب مقامهم السامي وكون إطعامهم لوجه الله، أما التفوّه بهذه الكلمات أمام المطعمين، فأنه لا يخلو من توهين وترفّع عنهم، فالظاهر أن هذا التعبير من الله تبارك وتعالى لبيان حالهم ومقامهم الذي علمه الله تعالى منهم والروايات تدل على ذلك، فقد روى الشيخ المفيد في الاختصاص (^): (أما إن علياً لم يقل في موضع:إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً، ولكن الله تعالى علم من قلبه أن ما أطعم لله، فأخبره بما يعلم من قلبه من غير أن ينطق به)([21])، وهذا المورد من مصاديق لسان الحال.

7- إن هذه القيمة الكبرى التي اكتسبها الاطعام بالإخلاص لله تعالى لا تختص به بل يمكن أن تكتسبها أي طاعة لله تعالى، فالآية نموذج للتربية القرآنية للإنسان على أن يبادر إلى فعل الخير ويسارع إليه لا لشيء إلا لأن فيه رضا الله تبارك وتعالى لا ينتظر جزاءاً ولا شكوراً من أي أحد، ولا يثبّطه ولا يشعره بالإحباط واليأس عدم حصوله على الثناء والشكر والإشادة بعمله بل ربما يتعرض للإساءة من نفس الذين يحسن إليهم لؤماً منهم وهو يمضي في معروفه وإحسانه متأسياً بربّه الذي يغدق على عباده بالنعم وهم يعصونه ويتمردون عليه ويشركون به ويعبدون غيره (مني ما يليق بلؤمي منك ما يليق بكرمك)([22]).

8- وبهذه التربية على سمو الهدف وهو رضا الله تبارك وتعالى واتقاء غضبه { إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً } يندفع الإنسان المؤمن إلى فعل كل خير ولا يقف عند الواجبات فقط، ويتجنّب كل سوء ومكروه ولا يقتصر على تجنّب المحرمات فهذا الإطعام هو غير الإنفاق الواجب في الزكاة والخمس.

9- وهذا السلوك القرآني والسير على منهجه ثابت في سيرة أهل البيت (^) – وهم القرآن الناطق – ولنأخذ مثالاً من سيرة الإمام الحسين (عليه السلام) تعريجاً على ذكره، فقد روت كتب التاريخ والمقاتل أن الحر الرياحي وكتيبته البالغة ألف فارس من جيش الأمويين لما خرجوا لاعتراض ركب الإمام الحسين (^) في الطريق بلغ بهم العطش والإعياء أقصاه حتى أشرفوا على الهلاك فتلقاهم الإمام (×) وسقاهم ثم سقى خيولهم بيده الشريفة، ولما حاصره القوم في كربلاء ومنعوه وأهل بيته وأصحابه حتى الرضع من الماء فقضوا عطشى لم يروِ أحد أن الإمام الحسين (×) ذكّرهم بموقفه ذاك أو أنه (عليه السلام) طالبهم بالجزاء على احسانه أو قال لهم اسقوني كما سقيتكم في الطريق، لأنه من أولئك الذين قال الله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً}.

فسلام الله عليكم يا أهل البيت الطاهر يا سادة الأحرار المنعتقين من عبادة غير الله، ويا رموز الإباء والسمو والإنسانية.

 

 

 

 

 

 



([1]) الغدير: 3م 107-111 من الطبعة الأصلية، و4/154-161 من طبعة دار الغدير.

([2]) راجع بعض مصادرها في الميزان: 20/ 144.

([3]) البرهان في تفسير القرآن: 10/79 ح 5 عن الاختصاص :150 .

([4]) وهذا البيت يُنسب إلى عبد الباقي الفاروقي العمري أنظر: (أدب الطّف- جواد شبر:7/134

([5]) نور الثقلين: 5/ 473-474.

([6]) الأمثل: 14/524 عن الكامل لابن الأثير: 2/131.

([7]) روح المعاني للآلوسي: 29/155 عن الحسن .

([8]) الكافي: 2/ 200.

([9]) أصول الكافي: 2/200 – 302 باب إطعام المؤمن .

([10]) بحار الأنوار: 74/ 369.

([11]) نهج البلاغة: باب المختار من حكم/328

([12]) روح المعاني للآلوسي: 29/156

([13]) فروع الكافي: 4/11 كتاب الصدقة باب 7: كفاية العيال والتوسيع عليهم، ح3

([14]) الفرقان في تفسير القران: 29/236 عن تفسير الرازي :30/245.

([15]) كتاب العين، للفراهيدي: باب العين والنون: 2/ 252، قال: ((العاني: الأسير))، وفي مجمع البحرين: ((والعاني: الأسير، ومنه: (أطعموا الجائع وفكوا العاني). وكل من ذل واستكان وخضع فقد عنا وهو عان، والمرأة عانية، والجمع عوان. ومنه الخبر: (اتقوا الله في النساء فإنهن عوانٍ عندكم) أي أسراء أو كالأسراء)): 3/ 264.

([16]) ويساعد في تطبيق مادة الأسر إلى غير أسير الحرب قوله تعالى في نفس السورة: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} (الإنسان: 28) وهذه حالة جارية في القران الكريم حاصلها أن بعض المفردات تتكرر في مواضع متعددة من السورة الواحدة لكي تساهم في انشاء معنى خاص في ذهن القارئ أو تتساعد في تفسير معنىً ما سوية.

([17]) الكافي: 1/ 42 عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (قام عيسى بن مريم عليه السلام خطيباً في بني إسرائيل فقال: يا بني إسرائيل لا تحدّثوا الجُهّال بالحكمة فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم).

([18]) انظر الخطاب الفاطمي المعنون: ( هل تريد أن تكون مع الصديقة الزهراء (÷) في درجتها؟) في موسوعة: خطاب المرحلة: 6/ 258.

([19]) المحاسن: 397 ح71.

([20]) البحار: 67/ 186، والحديث مرسل في جميع مواضع روايته وقيل انه أول من رواه ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه للنهج قال: (وقد جاء في كلام أمير المؤمنين عليه السلام، من هذا الكثير، نحو قوله: (لم أعبده خوفاً ولا طمعاً، لكني وجدته أهلاً للعبادة فعبدته) ونقل بعده بألفاظ قريبة ومختلفة، وكلها مرسلة.

([21]) البرهان في تفسير القرآن: 10/79 ح 6 عن الاختصاص :151 ورواها الشيخ الصدوق في الأمالي عن الإمام الصادق عن أبيه (عليهما السلام).

([22]) مفاتيح الجنان: 339, دعاء عرفة