{وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} - السيدان الشهيدان الصدران....نموذجاً

| |عدد القراءات : 55
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

{وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} (آل عمران: 140)

السيدان الشهيدان الصدران....نموذجاً[1]

 

         تناولت سورة آل عمران في سياق طويل معركة أُحُد وملابساتها ونتائجها والدروس المستفادة منها، ومنها هذه الفقرة التي تقع ضمن عدة فقرات فيها تسلية وعزاء للمسلمين عن الشهداء الذين سقطوا في معركة أُحُد وهم سبعون من خيرة المهاجرين والأنصار، وفيها تخفيف عن آلام المسلمين وجراحهم بسبب النكبة التي حصلت لهم في المعركة، وتقوية معنوياتهم وإعادة الأمل والثقة إلى نفوسهم، فيذكرّهم الله تعالى بعدة حقائق عليهم أن يستحضروها, قال تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ*إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (آل عمران : 139-140) فتبيّن الآيتان:

1- إنكم أنتم الأعلون بالإسلام فلا يجوز أن تشعروا بالهزيمة والهوان إن كنتم صادقين في إيمانكم.

2- إن أصابكم قتل وجراح في هذه المعركة فقد أصاب عدوكم مثله فيها وفي معركة بدر {إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} (النساء: 104) ولم ييأسوا بل جمعوا قوتهم من جديد وأعادوا الكرّة بالهجوم عليكم فلا يكونوا أحرص على باطلهم منكم على حقكم.

3-إن هذا التقلب في الأحوال هو شأن الدنيا بسعادتها وشقائها فإن ((دوام الحال من المحال)) كما قيل، قال أمير المؤمنين >×<: >الدهر يومان: يومٌ لك ويومٌ عليك<([2]) إذ كل وضع له مقدماته وأسبابه التي تؤدي إليه، وقد أرادها الله تعالى كذلك فنسبَ المداولة اليه سبحانه {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: 140) منذ أن بدأت الخليقة، روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: (ما زال منذ خلق الله آدم دولةٌ لله ودولةٌ لإبليس، فأين دولة الله، أما هو إلا قائم واحد) ([3])،  فيوم لآدم على إبليس حينما طرد وعوقب بسبب امتناعه من السجود، ويوم لإبليس  على آدم حينما أطاعه وأكل من الشجرة فاهبطّه الله تعالى من الجنة، واخرج في الدر المنثور عن الإمام الباقر (عليه السلام) قوله: (إن للحق دولة وإن للباطل دولة، دولة من دولة الحق أن إبليس أمر بالسجود لآدم فأديل آدم على إبليس  وابتلي آدم بالشجرة فأكل منها فأديل إبليس  من آدم)([4]).

4-إن هذه الابتلاءات وتغير الأيام تكشف عن حقيقة الناس واستحقاقهم ليثاب المحسنون ويعاقب المسيئون {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} (آل عمران: 140) {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (الأنفال: 37)، وتفرز أهل المطامع والأغراض الدنيوية عن الصادقين في إيمانهم ليتخلص المجتمع المسلم من أولئك الذين ينخرون في عقيدته وأخلاقه.

5- إنَّ الشهادة كرامة من الله تعالى ووسام يقلده الله من يشاء، وهو عظمت آلاؤه من يصطفي الشهداء منكم ويختارهم، فلماذا الأسى والحزن والله تعالى لا يختار لعباده إلا الخير، و (من) هنا تبعيضية، وهذا المعنى ذكره الإمام السجاد (عليه السلام) بقوله لابن زياد: (وكرامتنا من الله الشهادة) ([5])  وذكرته العقيلة زينب (عليها السلام) وهي ترد على استهزاء ابن زياد وسؤاله: (كَيْفَ رَأَيْتِ صُنْعَ اللَّهِ بِأَخِيكِ وأَهْلِ بَيْتِكِ؟) فقالت (عليها السلام): (مَا رَأَيْتُ إِلَّا جَمِيلًا، هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ فَبَرَزُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) ([6]).

والشهداء جمع شهيد أو شاهد كما في قوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} (البقرة: 281) وهو مأخوذ من الشهود، والشهود والمشاهدة تعني المعاينة الحضورية إما بالبصر أو البصيرة والوجدان ويقابلها الغيب كما في كثير من الآيات الكريمة كقوله تعالى: {وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة: 105) والشهادة قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصيرة أو بصر: قال تعالى: {وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} (يونس: 61)، وقوله تعالى: {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} (البروج: 7)، وقوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} (البقرة: 281)، وقول النبي (صلى الله عليه وآله) وقد سئل عن الشهادة قال: (هل ترى الشمس؟ على مثلها فاشهد أو دع) ([7]).

وفي ضوء هذا فإن من وجوه تسمية القتيل في سبيل الله شهيداً لأنه يشاهد قبل خروج روحه ما أعده الله تعالى له من النعيم، أو لأنه شهد المعركة وثبت فيها حتى قتل -عن مجمع البيان-.

وقد يجعل الله تعالى في الشهداء من لم يقتل لأنه كان صادقاً في طلبها مهيئاً نفسه لها، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من طلب الشهادة صادقاً أعطيها ولو لم تصبه) ([8])  و قال (صلى الله عليه وآله): (من سأل الله الشهادة بصدقٍ بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه) ([9]وقد يحرم أحدٌ من الشهادة لعدم استحقاقه لها فلم يكرمه بها، وقد يؤخِّر الله تعالى لعبده الشهادة وهو مستحق لها لمصلحة الدين والأمة، قال أمير المؤمنين من خطبه له: (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَلَيْسَ قَدْ قُلْتَ لِي يَوْمَ أُحُدٍ حَيْثُ اسْتُشْهِدَ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْـمُسْلِمِينَ، وَحِيزَتْ عَنِّي الشَّهَادَةُ([10])، فَشَقَّ ذلِكَ عَلَيَّ، فَقُلْتَ لِي: «أَبْشِرْ، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ وَرَائِكَ»؟ فَقَالَ لي: «إِنَّ ذلِكَ لَكَذلِكَ، فَكَيْفَ صَبْرُكَ إِذَنْ»؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَيسَ هذَا مِنْ مَوَاطِنِ الصَّبْرِ، وَلكِنْ مِنْ مَوَاطِنِ البُشْرَى وَالشُّكرِ) ([11]هكذا يتلقى المؤمنون الراضون بما يختاره الله تعالى بشرى القتل في سبيله.

وقد تعرضنا لهذا المعنى من الشهادة وهو القتل في سبيل الله تعالى باعتبار سياق الآيات ونزولها في معركة أحد، وإلا فإنَّ الشهادة في المصطلح القرآني لها معنى أوسع من هذا، فإنها مقام شريف وهي تعني الرقابة والقيام بوظائف الخلافة الإلهية، والالتزام بما عاهدوا الله عليه، وترشيد عمل الناس وفق ما يريده الله تعالى و يرضاه، ويكون الشهداء مسؤولين عن كل ذلك أمام رسول الله >’< والأئمة المعصومين >^<، قال تعالى: { وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة: 143).

 

         والشهادة على الأمة مسؤولية تتطلب عدة مؤهلات:

1-             العلم والمعرفة بالحقائق الدينية عموماً؛ لتتمكنوا من الشهادة عليها، قال تعالى: { إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} (المائدة: 44).

2-             الحكمة والرشد في التصرف، وعدم اتباع الهوى ونحوه من أسباب الانحراف، والسلوك بوسطية واعتدال من خلال الالتزام التفصيلي بالشريعة، وهي الملكة المعروفة بالعدالة نعم هو لا يصل الى العصمة لذا احتاج الشهداء من الأمة الى شهادة المعصوم عليهم ومراقبته لهم، قال تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة: 143).

3-             الخبرة والنضج في إدراك الواقع ووعي متطلبات المرحلة وتحدياتها من خلال المعايشة الحسية والاستفادة من التجارب، قال تعالى عن لسان عيسى بن مريم >×<: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} (المائدة: 117)، فالشهادة تتطلب معايشتهم ومعاينة أعمالهم فلما غاب عنهم فقدَ شرطاً من شروطها، وروي عن الإمام الصادق >×<: (العارف بزمانه لا تهجم عليه اللوابس)([12]).

4-             توفر الملكات النفسية كالشجاعة والثبات والصبر وقوة العزيمة وعلّوا الهمة والتفاؤل التي تجعله كفؤاً لهذا المقام الشريف، قال الإمام الصادق (عليه السلام): (ما ضعُف بدنٌ عمّا قويت عليه النية)([13])، وتترسخ هذه الملكات بالتعرض للابتلاءات والمحن.

     وهذه المؤهلات تميِّز الشاهد عن باقي الأمة وتجعل له مقام المشاهدة لأفعال الأمة والإشراف على أعمالها كمن يشرف من علو فيكون محيطاً بما يجري تحت نظره، وسموا شهداء لمشاهدتهم الأعمال التي يشهدون بها.

 

         وفي ضوء هذا المعنى فالآية الكريمة التي نحن بصددها تعني وعد المؤمنين بمنحهم مقام الشهادة اذا عرفوا هذه الحقائق التي استفدناها من الآيتين وأطمأنوا بها، والبشرية بحاجة الى هؤلاء القيمين على الدين والقائمين بإرشاد الناس وإصلاحهم، وتكون الآية بمعنى قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} (القصص: 5).

ومن هذا المعنى يتحصل لنا وجه آخر لتسمية القتيل في سبيل الله شهيداً لأنه بتقديم نفسه قرباناً يدلي بأعظم شهادة على الحق الذي مضى عليه وقد شهد بها قتلى أحُد على الفارين من الزحف وعلى جميع الناس بحقيقة أن عصيان أوامر القائد الرباني تؤدي الى الهزيمة والخذلان والانكسار، وتستمر شهادتهم الى يوم القيامة، قال تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (الزمر: 69).

         وأعظم شهادة في هذا المجال شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) فقد شهد بدمه وتضحياته بأهل بيته وأصحابه على حقانية هذا الدين وسموه وعلو قدره وبذل الغالي والنفيس في نصرته وحفظه ونشره، روى الشيخ الطوسي في الأمالي عن عبد الله بن سيابة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لما قدم علي بن الحسين عليهما السلام وقد قُتل الحسين بن علي صلوات الله عليهما استقبله إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله وقال: يا علي بن الحسين مًن غلب؟ وهو مغطى رأسه وهو في المحمل، فقال له علي بن الحسين عليهما السلام: إذا أردت تعلم من غلب ودخل وقت الصلاة فأذن ثم أقم)([14])، أي اذا دخل وقت الصلاة وتشهدّت في آذانك وإقامتك لله بالوحدانية ولمحمد (صلى الله عليه واله) بالرسالة ستعرف أن الحسين (عليه السلام) هو المنتصر وأن شهادته قد أدّت غرضها.

وقد اختار المعنى الأول للشهداء الشيخ الطوسي في التبيان بلحاظ سياق الآيات، واحتمل عدة مفسرين المعنيين ومنهم الطبرسي، واختار بعضهم الثاني خاصّة كالسيد الطباطبائي في الميزان باعتباره المعنى المستعمل([15]) في القرآن الكريم قال (قدس سره): ((وأما قوله: {ويتخذ منكم شهداء} فالشهداء شهداء الأعمال وأما الشهداء بمعنى المقتولين في معركة القتال فلا يعهد استعماله في القرآن، وإنما هو من الألفاظ المستحدثة الإسلامية، كما مر في قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمه وسطاً لتكونوا شهداء} (البقرة: 143) على أن قوله ويتخذ أيضاً لا يلائم الشهداء بمعنى المقتولين في المعركة كثير ملاءمة فلا يقال اتخذ الله فلاناً مقتولاً في سبيله وشهيداً كما يقال اتخذ الله إبراهيم خليلاً واتخذ الله موسى كليماً واتخذ الله النبي شهيداً يشهد على أمته يوم القيامة)) ([16])، ثم قال (قدس سره) بعد كلام: ((ويمكن أن يتأيد هذا الذى ذكرناه بقوله بعده : {والله لا يحب الظالمين}).

         وقال السيد السبزواري (قدس سره) في وجه التأييد: ((ولأن قوله تعالى: {لا يحب الظالمين} قرينة على أن المراد بالشهداء هم شهداء الأعمال أو من يصلح للشهادة على الأمم يوم الحساب)).

         وفيه: أولاً: أنه خلاف سياق مثل هذه الآيات الشريفة، إذ لا ربط لقبول قول الشهداء في عداد بيان خصوصيات القتال والجهاد في سبيله.

         وثانياً: إذا كانوا من الشهداء في الحق يكونون من الشهداء على الأعمال أيضاً؛ لما ذكرنا سابقاً من أن الشهداء في سبيل الله لهم مقام الشهادة على الأعمال والشفاعة؛ لما ابتلوا بالصبر والإيثار ببذل النفس.

         وثالثاً: إن قوله: {لا يحب الظالمين} تفصيل بين الشهداء في الحق، فهم ممن أحبّهم الله تعالى واتخذهم وارتضاهم، وبين من قُتل في غير الحق.

         ورابعاً: إن استعمال الشهداء بمعنى المقتول في المعركة مطابق للقواعد العربية الفصيحة، فلا محذور في وروده في القرآن الكريم، فليكن المقام من ذلك)) ([17]).

         أقول: يمكن أن يراد كلا المعنيين باعتبار انطباق العنوان عليهما كما أوضحنا، وأن المورد لا يخصِّص الوارد، وعدم صحّة إخراج معنى القتل في سبيل الله لأنه محل الكلام، وإن المصطلح موجود في الأحاديث النبوية الشريفة([18]) فهو مستعمل في عصر نزول القرآن، بل يمكن استظهاره من بعض الآيات الكريمة كقوله تعالى [وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيداً] (النساء: 72) بتقريب أن فرحهم كان لأجل أنهم لم يقتلوا في المعركة، مضافاً إلى أن أمثال هؤلاء الناس لا يمكن أن يفهموا من الشهادة معنى القيمومة على الأمة فالأقرب أنهم يقصدون المقتولين في سبيل الله في المعركة بعد أن صارت تسميتهم بالشهداء تعبيراً عرفياً في المجتمع المسلم فلا وجه لاستبعاده.

وقد دلّت الأحاديث الشريفة على أن مصاديق الشهيد واسعة جداً لا تقتصر على القتل في سبيل الله تعالى كرماً من الله، قال الإمام الحسين بن علي >×<: (لو لم تكن الشهادة إلا لمن قتل بالسيف لأقلَّ الله الشهداء)، ومن المصاديق الواسعة للشهيد ما ورد في الحديثين المتقدمين (صفحة 4) عن رسول الله >’<، وروي عن أمير المؤمنين >×< قوله: (ما المجاهد الشهيد في سبيل الله بأعظم أجراً ممن قدر[19] فعفَّ)([20])، وروي عن رسول الله >’<: (من مات على حبِّ[21] آل محمد مات شهيداً)([22])، وفي حديث الإمام زين العابدين >×<: (من مات على موالاتنا في غيبة قائمنا أعطاه الله أجر ألف شهيد مثل شهداء بدر وأحد)([23])، وروي في مجمع البيان عن منهال القصاب قال: (قلت لأبي عبد الله >×< ادع الله أن يرزقني الشهادة، فقال: ان المؤمن شهيد، وقرأ هذه الآية: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ} (الحديد: 19))([24])، ووردت في الأحاديث الشريفة مصاديق أخرى كالمرأة التي تموت أثناء الولادة ومن مات غرقاً أو بسبب الطاعون والمواظب على آية الكرسي دبر كل صلاة وعلى سورة الكهف كل ليلة جمعة([25]) وغير ذلك([26]).

         إن الشهادة لا تتحقق إلا بإخلاص العمل لله سبحانه وأن يُقدِم حينما يريد منه الله تعالى الإقدام، ويتأخر عندما يريد الله تعالى له ذلك من خلال طاعة القيادة الربانية الرشيدة التي افترض الله تعالى طاعتها، وليس تبعاً لهواه واندفاعه وحماسه أو تعصباً أو لجماعة أو حباً بشخص أو طمعاً في الدنيا أو غير ذلك، روى الشيخ الطوسي في أماليه بسنده عن الإمام الرضا (عليه السلام) عن أبيه الكاظم (عليه السلام) عن آبائه (صلوات الله عليهم أجمعين) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حديث قال: (إنما الأعمال بالنيات، ولكل أمرئ ما نوى، فمن غزا ابتغاء ما عند الله فقد وقع أجره على الله عز وجل، ومن غزا يريد الدنيا أو نوى عقالاً لم يكن له إلا ما نوى) ([27]) وقال (صلى الله عليه وآله): (كم ممن أصابه السلاح ليس بشهيد ولا حميد، وكم ممن قد مات على فراشه حتف أنفه عند الله صديق شهيد) ([28].

         إن للشهادة قيمة كبرى في الإسلام لا يضاهيها شيء من الطاعات بحسب الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة كما في قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (النساء: 69)، فالشهداء بعد مرتبة النبيين والصديقين، وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) قوله: (فوق كل ذي بر برّ حتى يقتل الرجل في سبيل الله، فإذا قتل في سبيل الله فليس فوقه بر)([29]).

         وقد تتفاوت درجات الشهداء بحسب نوع العمل وظروفه ودرجة الصدق والثبات فيه كالمروي في تفاوت درجة القادة الشهداء في مؤته فإن عبد الله بن رواحه ليس في درجة جعفر الطيار وزيد بن حارثة (رضوان الله تعالى عليهم أجمعين).

         وتبلغ قيمة الشهادة ذروتها عندما تكون بسبب اتخاذ المواقف الحقّة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر في زمان دولة الجور والظلم والعدوان وانتهاك المقدسات فقد روي في الحديث الشريف عن رسول الله >’< لما سئل: يا رسول الله! أي الجهاد أفضل؟ قال: كلمة حق تقال عند ذي سلطان جائر) ([30]).

         لقد كان السيدان الشهيدان الصدران (قدس الله سريهما) شهيدين بكل هذه المعاني فقد كانا بمرجعيتهما وعلمهما وعملهما وجهادهما ومواقفهما شهيدين على الأمة وحجتين عليها.

 وكانا شهيدين لأنهما قتلا في سبيل الله تعالى وإعلاء كلمته.

         وكانا شهيدين لأنهما أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر، وقالا كلمة الحق أمام سلطان جائر متجبر مستخف بالحرمات.

         فعلى جميع الكتاب والمثقفين والفضلاء أن يهتموا بتدوين سير الشهداء ونشرها لتتعرف الأمة على السرّ([31]) الذي استحقوا أن يتخذهم الله شهداء، لأن الشهادة نفسها كرامة يمنحها الله تعالى لمن يشاء وليست بأيدينا وإنما علينا أن نعرف موجباتها (اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك) وطريق الوصول إليها واستحقاقها لنتأسى بهم ونستفيد من تجربتهم والله ذو الفضل العظيم.

         نسأل الله تعالى الرحمة والرضوان لشهداء الإسلام وأن يبلّغهم المقام المحمود الذي وعدهم إنه سبحانه لا يخلف الميعاد ولا يضيع أجر من أحسن عملاً.



[1] - قبس قرآني ضمَّ دروس (من نور القرآن) الأسبوعي التي يلقيها سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على طلبة البحث الخارج، وقد كان هذا القبس بمناسبة الذكرى السنوية لاستشهاد السيد الصدر الثاني (قدس سره) يوم 4/ذو القعدة/1444 الموافق 24/5/2023.

[2]  - نهج البلاغة، قصار الحكم: 496

[3] -تفسير العياشي:1/199.

[4] - الدر المنثور: 2/79.

[5]- تاريخ الطبري: 6/263

[6] - بحار الأنوار (الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار) (عليهم السلام): 45 / 115.

[7] - وسائل الشيعة (آل البيت): ج ٢٧ - الصفحة ٣٤٢.

[8] - صحيح مسلم:3/1517 ح156،157 بواسطة ميزان الحكمة: 4/512.

[9] - صحيح مسلم:3/1517 ح156،157 بواسطة ميزان الحكمة: 4/512.

[10]  - روي عن أنس بن مالك قال: >أتى رسول الله >’< بعلي >×< يومئذ وفيه نيف وستون جراحة -وفي رواية أخرى تسعون- من طعنة وضربة ورمية، فجعل رسول الله >’< يمسحها وهي تلتئم بإذن الله تعالى كأنها لم تكن< (مجمع البيان: 2/221).

[11] - نهج البلاغة: الخطبة 156.

[12]  - تحف العقول: 356.

[13]  - من لا يحضره الفقيه: 4/ 400.

[14]  - أمالي الطوسي: 6/ 77.

[15] - أما شهداء الحرب فقد ذُكروا بالقتل ولم يذكروا بالشهادة كقوله تعالى: [وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ] (البقرة: 154) وقوله تعالى: [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] (آل عمران: 169).

[16] - الميزان في تفسير القرآن: 4/ 30، ط. الأعلمي- بيروت.

[17] - مواهب الرحمن في تفسير القرآن: للسيد عبد الأعلى السبزواري: 6/ 369-370، ط. الخامسة.

[18] - راجع الجزء الثالث من كتاب ميزان الحكمة، ويمكن أن يُنسب إلى الآيات الشريفة.

[19] - أي قدر على فعل المعصية أو على خصمه لكنه أتقى الله تعالى فانتصر على هواة وميله النفسي وعفَّ فعل الحرام.

[20]  - نهج البلاغة الحكمة: 474.

[21] - لا بد أن نفهم من الحب المقترن بالطاعة والإتباع ((إن المحبَّ لمن أحبَّ مطيع)) وليس مجرد الحب العاطفي.

[22]  - بحار الأنوار: 68/ 137، ح 76.

[23]  - بحار الأنوار: 82/ 173، ح6.

[24]  - مجمع البيان: 9/ 359.

[25] - ثواب الأعمال:107

[26]  - راجع الأحاديث في ميزان الحكمة: 4/ 512.

[27] - وسائل الشيعة (آل البيت): ج ١ - الصفحة ٤٩.

[28] - كنز العمال: 11200.

[29]- الكافي:2/348، ح4.

[30] - ميزان الحكمة: ج ٣ - الصفحة ١٩٤٤.

[31] - فالحر الرياحي كمثال للتوفيق للشهادة العظيمة بين يدي الإمام الحسين (عليه السلام) مع أنه قضى عمره محارباً في جيش الدولة الاموية حتى أصبح قائداً عسكرياً كبيراً يتمتع بامتيازات ضخمة فلندرس سرّ توفيقه، ويمكن اكتشافه من قول الإمام الحسين (عليه السلام) عندما وقف على مصرعه (حرّ كما سمّتك أمّك حرّ) فانعتاقه من اتباع الشهوات وهوى النفس وطاعة الطواغيت والخوف من الموت الا مع الحق سبب توفيقه، ويمكن أن ينضّم اليه احترامه الكبير للسيدة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وتقديره لها ويعرف ذلك من عدم ردِّه على الإمام الحسين (عليه السلام) عندما اعترضه في الطريق وهو يقود ألف فارس وحصلت مشادة في الكلام وزجر الإمام (عليه السلام) بقوله: (ثكلتك أمك) ولم يردّ على الإمام (عليه السلام) مع إن الإمام (عليه السلام) و أهله كانوا في قبضته لأن أم الإمام عليه السلام هي فاطمة الزهراء(عليها السلام) سيدة نساء العالمين.