خطاب المرحلة (688) (حتى تسكنه أرضك طوعاً) الفتح السلمي للعالم
(حتى تسكنه أرضك طوعاً)
الفتح السلمي للعالم([1])
تضمّن الدعاء المأثور للإمام المهدي الموعود (#) الذي أوله (اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه)([2]) فقرة تستحق التأمل، وهو قوله (A): (حتى تسكنه أرضك طوعاً), أي تمكينه من فتح العالم واخضاعه لسلطة العدل الإلهي سلماً.
وهذا معنى ورد في الروايات الشريفة عن المعصومين (D) أيضاً كالذي أخرجه السيوطي في الحاوي عن نعيم بن حماد عن علي قال: (اذا بعث السفياني الى المهدي جيشاً فخسف بهم البيداء... وتنقل اليه الخزائن، ويدخل العرب والعجم وأهل الحرب والروم وغيرهم في طاعته من غير قتال)([3]).
واخرج بن طاووس في الملاحم والفتن عن نعيم بن حماد أيضاً، وأخرج النعماني في الغيبة بإسناده عن محمد بن جعفر بن محمد عن أبيه (D) قال: (اذا قام القائم... قال: ويبعث جنداً إلى القسطنطينية. فاذا بلغوا الخليج كتبوا على أقدامهم شيئاً ومشوا على الماء. فاذا نظر إليهم الروم يمشون على الماء، قالوا: هؤلاء أصحابه يمشون على الماء، فكيف هو؟ فعند ذلك يفتحون لهم أبواب المدينة، فيدخلونها، فيحكمون فيها ما يريدون)([4]).
وهنا ينقدح سؤالاً لا يرقى إلى مستوى الاشكال أكيداً وحاصله: أننا نعلم من تاريخ الحركات الرسالية التي قادها الأنبياء والأوصياء (صلوات الله عليهم أجمعين) عبر التاريخ أنها تواجه حرباً شرسة من قبل المتجبرين وذوي الثروة والجاه والاتباع في المجتمع الذين يصفهم القرآن الكريم بالملأ خوفاً على مصالحهم وامتيازاتهم غير المشروعة، وتتعرض تلك الحركات لحملات إبادة واستئصال تشنّها السلطات الجائرة والقوى الدولية المستكبرة، ولا يستطيع القادة الرساليون تثبيت دعوتهم ونشرها الا بشقّ الأنفس وبلطف الله تعالى وتأييده.
ولا شكّ ان القيام المهدوي المبارك سيتعرض لمثل ذلك وأكثر، وتستعدّ قوى الاستكبار العالمي لوأد نهضته المباركة قبل ولادتها وهو ما نتوقعه من الشياطين الذي يريدون أن يملؤا الأرض ظلماً وجوراً وفساداً، وعدوّهم الأول الإمام المهدي (#) الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، فكيف لا يحشدوّن كل قواهم لمواجهته.
وقد تناقلت وكالات الأنباء اعتراف الرئيس الأمريكي بايدن في خطاب القاه بمناسبة عيد الفطر الماضي بأن له مستشاراً (وهو بروفسور في العلوم الإسلامية) خاصاً لدراسة كل ما يتعلق بالإمام المهدي (#) وقيامه ودولته المباركة، ويجتمع به كل اربعاء على الغداء كما قال، وهو لم يقل هذا في خطاب عام امام وسائل الإعلام للتندر أو المجاملة وإنما لغرض لا يخفى.
اذن كيف ينسجم هذا الواقع مع ما نطق به الدعاء وصرحت به الروايات الشريفة؟
ونذكر وجوهاً في الجواب:
1- إن فتح العالم سلماً يقع على طريق المعجزة, التدخل الإلهي المباشر كالذي حصل مع النبي (J) حين أنزل معه آلاف من الملائكة في بدر وأُحد {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} (الأنفال: 12), وقوله تعالى: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} (الأحزاب: 26), وقوله تعالى: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} (الحشر: 2), وقوله تعالى في معركة الأحزاب {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} (الأحزاب: 9)، وقوله تعالى: {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} (آل عمران: 13), فأنزال الملائكة والجنود وإلقاء الرعب وإرسال الريح وتشويش الرؤية كلها وسائل غيبية اعجازية لتحقيق النصر، وهكذا المهدي (#) فأنه ينتصر بمثلها، روى الشيخ الصدوق في إكمال الدين والطبرسي في أعلام الورى عن محمد بن مسلم الثقفي قال: (سمعتُ أبا جعفر محمد بن علي الباقر (A) يقول: القائم منا، منصور بالرعب، مؤيد بالنصر)([5]).
وقد ورد في الرواية الآنفة ان أصحاب المهدي (#) يمشون على الماء فيذعن العدو ويستسلم. أو ما ورد في عقد الدرر عن علي بن ابي طالب (A) في قصة المهدي وفتوحاته إلى ان قال: (ويقيم المهدي (#) بانطاكيه سنته تلك، ثم يسير ومن تبعه من المسلمين ولا يمرّون على حصن من بلد الروم الا قالوا عليه: لا إله الا الله فيتساقط حيطانه ويقتل مقاتلته)([6]) الى آخر الحديث.
2- ان هذا ليس بعيداً حتى بالطرق الطبيعية من دون الحاجة إلى المعجزة فقد حصل الفتح بنص القرآن الكريم {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} (الفتح: 1), لرسول الله (J) في الحديبية سلماً وأرغم قريش على إيقاف الحرب عشر سنوات والسماح للدعاة الى الإسلام ان يخرجوا الى بقاع الأرض والاذن لمن يشاء من قبائل العرب ان يتحالفوا مع رسول الله (J)، كل ذلك حصل بعد سنة واحدة من حرب الأحزاب التي حشدت قريش فيها عشرة آلاف مقاتل وحاصروا المدينة للقضاء على النبي (J), وفي العام التالي خرج (J) محرماً بالعمرة وساق معه الهدي في ما يقرب من ألفين من أصحابه ولم يشك أحد من العرب بأنّه سائرٌ إلى حتفه وأنه قدّم نفسه الشريفة وأصحابه لقمة سائغة بين أنياب قريش لذلك خافوا من الالتحاق به حتى أشرف على مكة وعرضت عليه الصلح بالفقرات التي ذكرناها وان يؤدي العمرة في السنة التالية([7]).
واما النماذج المعاصرة لإنتصار الشعوب سلماً فعديدة وذكرنا جملة منها في بعض الخطابات السابقة، ومن مظاهر الفتح السلمي الناعم ما نجده من اختراق الإسلام أوروبا وأمريكا وتعاظم وجوده هناك بكل سلاسة ويسر، رغم شدة الإسلام فوبيا التي يصنعها الأعداء، وتقول احصائيات العام الماضي في بريطانيا أن ثاني أكثر اسم شيوعاً في المواليد الجدد هو (محمد) وقد أصبح الأول هذا العام، وصار كبراؤهم يتهكمون رعباً بأن بعض دول أوروبا ستنضّم إلى منظمة المؤتمر الإسلامي بعد سنوات لأن الأغلبية ستكون مسلمة والفضل لله تعالى وحده على تحقق هذا الفتح.
3- أن يتمكن المؤمنون من الوصول إلى مواقع النفوذ والسلطة والحكم في البلاد التي ينطلق منها الإمام (#) لتأسيس دولته الكريمة وقلبها العراق، وهؤلاء يهيئون تسليم الحكم للإمام (#) بكـل طاعـة وولاء، أما إذا كانت البلاد بأيدي المنافقين والكفـار والمعادين فإن الإمام (#) سيبذل كثيراً من الجهد والتضحيات لفتح هذه البلاد، وقد وردت روايات تسمي فيها بعض القيادات الصالحة التي تلتحق بالإمام (#) مع قواتها سلماً وتسلم له القيادة في العراق في حين تحاربه جيوش مـن بعـض الـدول المجاورة وبعض المنافقين في هذه البلاد.
4- إن البشرية ستكون قبل هذا الفتح العالمي السلمي مستعدة لاستقبال المصلح الموعود بسبب الأزمات الخانقة التي تعجز عن حلهـا سـواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو بيئية أو صحية أو عسكرية وغيرها، وستتيقن الشعوب من فشل الأنظمة والايديوليات التي وضعها الناس، وسيشاهدون عياناً النموذج الفذّ الذي يقيمه الإمام (#) في عاصمته المباركة قبل انطلاقه لبسط دولته المباركة، فيرون الرفاه الاقتصادي والاستقرار الأمني والحياة الاجتماعية السعيدة والرقي العلمي والمعرفي بحسب ما ورد في الروايات وتناولناه في خطاب سابق. فحينما تبلغهم دعوة الإمام (#) لإقامة الحق والعدل وسعادة البشرية وإنصاف المظلومين والمحرومين واجتثاث أصول الفساد فسينقادون إليه ويؤمنـون بـه وسيعزِّز (#) ذلك بالحجج والبراهين الدامغة من خلال ما يقوم به من حوارات ولقاءات وما يلقيه من خطب وبيانات.
5- ان اغلب بقاع العالم هي تحت سيطرة القوى التي تدعي الانتماء للسيد المسيح (A) وفق رؤاها الباطلة، وعند الظهور المبارك ينزل السيد المسيح (A) ويلتحق بالإمام (#) وسيُثبِت للمسيحيين أنه المسيح الحق الذي عرج به إلى السماء وليس المزعوم الذي توهمّوا صلبه ويأمرهم باتباع المهدي (#).
لذا فإن السيد المسيح (A) يساهم بـدور فاعل في إذعان الأمم المسيحية للإمام المهدي (#) سلماً، بحسب ما ورد في الروايات، ومنها ما رواه القمي في تفسيره عن شهر بن حوشب قال: (قال لي الحجاج: يا شهر آية في كتاب الله قد أعيتني فقلت: أيها الأمير أية آية هي؟ فقال: قوله: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} (النساء: 159), والله إني لآمر باليهودي والنصراني فتضرب عنقه ثم أرمقه بعيني فما أراه يحرك شفتيه حتى يخمد، فقلت: أصلح الله الأمير ليس على ما تأولت، قال: كيف هو؟ قلت: إن عيسى (A) ينزل قبل يوم القيامة إلى الدنيا فلا يبقى أهل ملة يهودي ولا نصراني إلا آمن به قبل موته، ويصلي خلف المهدي (#)، قال: ويحك أنى لك هذا ومن أين جئت به؟ فقلت: حدثني به محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (D)، فقال: جئتَ والله بها من عين صافية)([8]).
تكاليفنا تجاه التمهيد لليوم الموعود
إن بعض هذه الوجوه التي عرضناها لشرح هذه الفقرة من الدعاء ذو بعدٍ عملي لذا فإنه يوجب تكليفـاً بإزائه، والدعاء عند أهل البيت (D) ليس مجرد كلمات تتلى للثواب، أو للتنفيس عن أماني حالمة لا سبيل إلى تحقيقها بل هي منظومة من العلوم والمعارف والقيم والآداب التي تهذّب السلوك الإنساني, والتي صيغت بشكل دعاء، وعلينا أن نستنبط ما فيها من خطط وبرامج لنتعرف على مسؤولياتنا تجاهها لنكون من الممهدين لليوم الموعود حقاً، ومنها هذا التعبير عن الفتح السلمي للعالم.
فالوجه الأول: فيه دعاء وطلب من الله تبارك وتعالى ان يذلل للإمام (#) السماوات والأرض والبحار فتكون في أوضاع مناسبة لحركته المباركة، وان توظَّفَ لخدمته وتكون عوامل مساعدة لعمله المبارك، إنَّ علينا إدامة الدعاء للإمام (#) بالتمكين والنصر وهو أقوى الأسباب, لأن كل الأحداث والوقائع الخارجية تعود في سلسلة عللها المباشرة وغير المباشرة إلى أسباب غيبية فلابد من اللجوء إلى عالم الغيب لتحقيقها، وهذه حقيقة مهمة في فهم فلسفة الدعاء.
والوجه الثالث: يدعو شيعة الإمام (#) التـواقين لظهوره الميمون أن يزيدوا مـن خبـرتهم في الإدارة والحكـم وينظمـوا صفوفهم ويعبئوا طاقاتهم للوصول إلى هذه المواقع وبذل الوسع في النجاح في أداء مهامهم حتى يتمكنوا في الأرض وينجحوا ويقنعوا الناس بمشروع الإسلام وقدرته على توفير الرفاه والسعادة والحياة الكريمة ثم يسلّموا مقاليد الأمور إلى بقية الله الأعظـم (#).
والوجه الرابع: يقضي بأن لا يقصّـر المؤمنـون فـي عـرض الإسلام النقي الأصيل كما ورد عن النبي (J) وآله الطاهرين (D) على شعوب العالم، وأن يبينوا لهم محاسنه ويرغبّوهم بالدخول فيه، ويشوّقونهم إلى اليـوم الـذي تسـود فيـه مبادئ الإسلام - التي هـي مبـادئ الإنسانية - الأرضَ كلَّهـا مستفيدين مـن وسـائل الإعلام والاتصالات التي بلغت حداً عظيماً، ويشرحون لهـم الحـال المزرية التي أوصلتهم إليها أنظمتهم التي وضعها البشر بجهلـه وغروره مـن أمـراض فتاكة کالآيدز ومن قلق ورعب ومستقبل مجهـول وتفكك اجتماعي وضياع وأزمات اقتصادية وتلوث بيئة وغيرها من المشاكل المستعصية، ويظهرون عجز هذه الأنظمة مهما استكبرت وتفرعنت عن جلب السعادة للبشرية بل هي سبب شقائها وهلاكها، وقد لقّن فايروس كورونا وهو أضعف خلق الله تعالى بحيث لا يرى بالعين المجردة هذه القوى المستكبرة درساً بليغاً لو كان لهم عقل وأدخلهم حالة من الرعب والقلق وشل الحركة الاقتصادية وأوقف الحياة وبدلّ النظام الاجتماعي الذي كان سائداً.
وهكذا تترجم الأدعية التي وضعها الأئمة المعصومون (D) لزمان الغيبة إلى برامج عمل نستشعر مسؤوليتنا عنها ليكون انتظارنا ايجابياً مثمراً مليئاً بالاستعداد للمراحل المقبلة حتى يوفينا الله تعالى أجور المنتظرين العاملين.
([1]) الخطبة الثانية لصلاة عيد الأضحى المبارك عام 1443هـ- الموافق 10/7/2022م.
([2]) مفاتيح الجنان: 298.
([3]) ج2/ ص146, نقلنا الحديث بواسطة موسوعة الامام المهدي (#) للسيد الشهيد الصدر الثاني (قده): 3/412.
([4]) موسوعة الامام المهدي (#) للسيد الشهيد الصدر الثاني (قده): 3/412, عن الملاحم والفتن: 53, والغيبة للنعماني: 172, ونقله المجلسي في بحار الأنوار: 13/194.
([5]) كمال الدين وتمام النعمة: ١/٣٥٩، إعلام الورى: 2/291.
([6]) موسوعة الامام المهدي (#) للسيد الشهيد الصدر الثاني (+) : 3/413, عن الزام الناصب: 224, ط.ايران.
([7]) راجع الروايات التي تشرح الحادثة في تفسير البرهان: 9/61.
([8]) تفسير القمي: 1/158، بحار الأنوار: 14/349، مجمع البيان: 2/137، وتجد مجموعة من روايات الفريقين عن هذه القضية في (المعجم الموضوعي لأحاديث الإمام المهدي (A): 659).