{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} - احذر خدع الشيطان من أول خطوة

| |عدد القراءات : 23
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسمه تعالى

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور: 21]

احذر خدع الشيطان من أول خطوة[1]

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} نداء إلى المؤمنين مع أنَّ ما في الخطاب أمر مطلوب من جميع الناس، لأن المؤمنين هم الفئة المتوقع منهم الاستجابة وتلبية النداء، وفيه نكتة أن المؤمنين ليسوا بمأمن من الوقوع في شرك الشيطان فليحذروا الانخداع بخطواته، والانسياق وراء وساوسه التي تكون خفية جداً حتى توصلهم في النهاية إلى حالة الانقياد لأوامر الشيطان ثم الطبع على القلب وسوء المصير.

{لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} والخطوة هي مسافة ما بين القدمين عند الحركة، والخطوات لا تكون إلا في طريق نحو غاية، فللشيطان خطوات على الطريق الذي يتحرك فيه المؤمنون، وهو صراط الحق والهدى، وقد أقسم إبليس وتعهّد بأن يقعد في طريق المؤمنين ليحرفهم عن مسارهم {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: 16].

فالمؤمن الصالح لا يسقط في الفساد والانحراف مباشرة وإنما عبر خطوات تبدأ مثلاً من مصاحبة الفاسدين والمنحرفين والاختلاط معهم، والاستماع إلى أحاديثهم والتأثر بها، ثم تشوش الأفكار في ذهنه وحصول القناعة ببعض ما يقولون، ثم التفكير داخل النفس بمجاراتهم في أفعالهم خصوصاً المشتبهة التي لم تثبت حرمتها فإنها ميدان الشيطان الرحب، ثم إيجاد المبررات لفعله وإسكات ضميره، ثم الوقوع في الذنوب والمعاصي الصغيرة ومنعه من التوبة واسترضاء الخصوم حفظاً لشأنيته ووضعه الاجتماعي، ثم السقوط في الكبائر والعياذ بالله تعالى، ولو دعاه إلى المعصية مباشرة لما استجاب له لقوة الرادع عنها.

وقد تكرر هذا النهي والتحذير في عدة آيات كريمة لأهمية الانتباه إليه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 208] وقال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة: 168] وقال تعالى {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [الأنعام: 142].

وفي هذه الآيات دلالة على أن الدين يتكفل بكل ما تحتاجه البشرية في جميع شؤون الحياة لضمان سعادتها وصلاحها ولا تحتاج إلى ما يبتدعه البشر بتسويلات من الشيطان.

وتصّور الآية الكريمة العصاة بأبشع صورة لتحقق أعلى درجات النفور والاشمئزاز بأن يسير الشيطان العدو القبيح في طريق الهاوية متخذاً أقذر الأساليب والأفعال ويتبعه الإنسان ذو العقل الرشيد خطوة بخطوة وهو يعلم المصير البائس الذي يقوده إليه ومع ذلك فهو مسلّم له، والمفروض أن يكون ما بينهما بعد المشرقين لأنه عدّو مبين.

ولا بد من الإشارة إلى أنّ الشيطان له أتباع منصاعون لأمره يطيعونه بمجرد الإشارة وهم الذين قال عنهم: { لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً} [النساء: 118] فهؤلاء حصته وهم جنده وأعوانه، ويخاطبهم يوم القيامة متبرئاً منهم: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم} [إبراهيم: 22]، لكن المؤمنين ليسوا كذلك فإنهم يتعبونه لأنه ما أن ينجح في إغرائهم بالمعصية حتى يثوبوا إلى رشدهم فيستغفرون الله تعالى ويندمون ويعقدون العزم على عدم العود {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف: 201]؛ لأن عندهم من نور الله تعالى وبرهانه ما يعصمهم من الانقياد اليه، لكنه يبقى طامعاً في إغوائهم بأدواته المعروفة وغير المعروفة[2] وقد أقسم على ذلك {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82-83]، لذا فإن الخبيث لا يطمع في إيقاعهم بالمعاصي مباشرة وإنما يغويهم عبر خطوات، وقد لا تظهر من الخطوة الأولى العاقبة السيئة التي سيوصلهم إليها، مثلاً رجل وامرأة يغريهما بالمحادثة عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو في أروقة الجامعات أو في محل العمل عن أمور علمية أو مشاكل اجتماعية أو حتى دينية ثم تتحول هذه المحادثات إلى إعجاب بينهما ثم مبادلة للعواطف والمودّة ثم رغبة أكيدة في اللقاء والخلوة، وهنا يصف الحديث الشريف ما يجري بينهما (لا يخلُوَنَّ رجل بامرأة فإن ثالثهما شيطان)[3].

أو موظف مؤتمن على المصالح العامة يأتيه مقاول فاسد فيقدّم له هدية بلا مقابل مع كلمات الإعجاب بمهنيته وكفاءته، وتتكرر العملية حتى يجد الموظف نفسه مضطراً إلى الاستجابة لطلبات هذا الشخص إذا طلب منه تمرير عمل خائن لأنه غير مطابق للشروط المطلوبة.

فالآية الكريمة تدعو إلى التحقق من كل خطوة والحذر من تداعياتها وتأثيراتها، ويعطينا أمير المؤمنين (عليه السلام) درساً في هذا الحذر، قال: (وأعجبُ من ذلك طارقٌ طرقنا بملفوفةٍ في وعائها، ومعجونةٍ شَنِئتُها كأنما عُجنت بريق حيةٍ أو قَيئها، فقلت: أصلةٌ أم زكاة أم صدقة؟ فذلك محرّم علينا أهل البيت. فقال لا ذا ولا ذاك ولكنها هدية. فقلت هبلتك الهبول، أعن دين الله أتيتني لتخدعني، أمختبطٌ أنت أم ذو جنة أم تهجر. والله لو أُعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جِلب شعيرة ما فعلت وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها، ما لعلي ولنعيم يفنى ولذة لا تبقى. نعوذ بالله من سُبات العقل وقبح الزلل وبه نستعين)[4].

وورود هذا التحذير في جوانب متنوعة من حياة الإنسان كما في الآيات المتقدمة حيث اقترن التحذير مرة بالأمر بالدخول في السلم لأن اتباع الشيطان يؤدي إلى الاضطراب والفوضى والنزاع {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة: 91] وأخرى بأكل الطيبات دون الخبائث وأخرى بحليّة المكاسب، وهذا يعني أنَّ خطوات الشيطان يمكن أن تكون في جميع الاتجاهات العقائدية بإلقاء الشبهات والشكوك والفتن.

أو السياسية بجعل أوضاع للحكم بديلة عن حكم الله تعالى وسنّ الدساتير وقوانين مخالفة لشريعة الله تعالى.

أو الاجتماعية بتزيين تقاليد وأعراف منافية للدين والحياء والعفة كالذي يحصل في الأعراس او حفلات التخرج أو الدكات العشائرية والثأر والانتقام.

أو الأخلاقية بابتداع المهرجانات الفنية والرياضية وأمثالها التي تحطّم مقدسات الإنسان ومبادئه الفطرية.

أو الاقتصادية بتشريع أنظمة تؤلّه المال وتربّي روح الأنانية والاستئثار والتمدد على حساب عامة الناس فيحرقون المنتجات الزراعية واللحوم أو يلقونها في البحر للمحافظة على الأسعار.

أو السلوكية كتشجيع المثلية والشذوذ الجنسي والإجهاض وتغيير الجنس والإباحية حتى للأطفال تحت عنوان الحرية وأمثالها وغير ذلك.

فمثلاً يغري رئيس دولة بأمر معين كالتحرش بدولة أخرى إرضاءً لنزوة أو اتباعاً لشهوة أو حماقة فيقابل برد فعل من الدولة الأخرى ثم تتصاعد الأفعال وردود الأفعال حتى تقع حرب مدمرة بين الدولتين تهلك الحرث والنسل، ولو عولجت المشكلة بحكمة وروّية من أول خطوة لما وقعت الكارثة.

وهكذا يمكن أن تكون الخطوات فردية على صعيد الأشخاص.

أو اجتماعية كنشر إشاعة -مثل مورد الآية وهو حديث الإفك واتهام زوج النبي (صلى الله عليه وآله) بالفاحشة- أو منشور على السوشيال ميديا لا يعرف أصله ومصدره لكنه يؤثر في ثقافة المجتمع وسلوكه الجمعي وكسر الحواجز المقدسة حتى يقوم المجتمع بأفعال كان ينكرها بالأمس ويراها من الجرائم الكبيرة، وقد يتطلب الأمر توزيع الأدوار فيطلق الأول الكلام ويصدقه الثاني ويغريه بالاستمرار ثم ينشره ثالث ويطبق كلامه رابع وهكذا.

وقد تكون الخطوة الأولى مباحة لا تدعو إلى الشك والريبة كالإكثار من الطعام والشراب فيصاب بأمراض تمنعه من أداء الطاعات، أو يثقل فينشغل عن الإتيان بها، روي أن الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين كانوا يلتقون بإبليس ويتحدثون معه وفي إحدى المرات قال يحيى (عليه السلام) لإبليس: فهل ظفرت بي ساعة قط؟ قال: لا، ولكن فيك خصلة تعجبني. قال يحيى: فما هي؟ قال: أنت رجل أكول، فإذا أفطرت أكلت وبشمت فيمنعك ذلك من بعض صلاتك وقيامك بالليل. قال يحيى (عليه السلام): فإني أعطي الله عهداً أني لا أشبع من الطعام حتى ألقاه، قال له إبليس: وأنا أعطي الله عهداً أني لا أنصح مسلماً حتى ألقاه، ثم خرج فما عاد إليه بعد ذلك[5].

وقد تكون الخطوة الأولى أمراً دينياً يبدو راجحاً كأن يأمره بالمبالغة في الاحتياط في أمور الدين كمسألة التطهير من النجاسة أو الوضوء أو الصلاة حتى يبتلي بالوسواس ويعيد العمل عدة مرات حتى تصبح العبادة ثقيلة عليه فيكرهها ويفقد الرغبة في أدائها، وربما يترك الواجبات لتخفيف هذا العبء عليه، روى الشيخ الكليني بسنده عن عبد الله بن سنان قال: (ذَكَرْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام رَجُلاً مُبْتَلىً بِالْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ، وَ قُلْتُ هُوَ رَجُلٌ عَاقِلٌ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ عليه السلام: وَ أَيُّ عَقْلٍ لَهُ وَ هُوَ يُطِيعُ الشَّيْطَانَ، فَقُلْتُ لَهُ وَ كَيْفَ يُطِيعُ الشَّيْطَانَ، فَقَالَ سَلْهُ هَذَا الَّذِي يَأْتِيهِ مِنْ أَيِّ شَيْ‌ءٍ هُوَ، فَإِنَّهُ يَقُولُ لَكَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)[6].

{وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} تعليل للنهي عن اتباع خطوات الشيطان، لأن هذه هي النتيجة التي يريد الشيطان أن يوصل المجتمع البشري إليها فيبدأ بالوسوسة والتزيين والإغراء إلى أن يصبحوا منقادين لأمره حينما يجعل الفحشاء والمنكر والظلم والفساد أموراً اعتيادية مألوفة، وأن من يعترض عليها ويسعى لتطهير المجتمع منها شاذ متخلف متجاوز على حقوق الإنسان وحرية الناس، ولمّا كانت {الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]، فإن الصلاة تشكّل عقدة كبيرة للشيطان، ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) قوله: (لا يزال الشيطان ذَعِراً من المؤمن هائباً له ما حافظ على الصلوات الخمس، فإذا ضيّعهن تجرأ عليه) وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: (الصلاة حصن من سطوات الشيطان)[7] لذا فإن الشيطان يحاول بكل الوسائل صدّ الناس عنها {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} [المائدة: 91] وإذا فشل فيعمل على إفراغها من محتواها حتى تصبح عديمة التأثير في حياة الإنسان ولا تنهاه عن الفحشاء والمنكر.

وأفظع المنكرات التي يدعو إليها الشيطان وتحصل باتباعه:

الإعراض عن دين الله تعالى وترك طاعة النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته المعصومين (عليهم السلام) فإنهم أساس السلم الذي أمرنا بالدخول فيه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [البقرة: 208]، وهم الكهف الحصين الذي يأوي إليه من يريد النجاة من مكائد الشيطان (المتقدم لهم مارق والمتأخر عنهم زاهق واللازم لهم لاحق)[8] وروى الشيخ الكليني في الكافي والطوسي في الأمالي والعياشي في تفسيره وغيرهم[9] أن السلم ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) والأئمة من بنيه (صلوات الله عليهم أجمعين) وأنَّ النهي عن اتباع خطوات الشيطان يراد منه النهي عن اتباع غيرهم.

{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور: 21] فلا يتوقع الإنسان أن صلاحه وتمسّكه بدينه واتباع سبيل الحق والهدى قد حصل عليه من تلقاء نفسه وبقدراته الخارقة {ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 49] وإنما حازه بتأييد الله تعالى وألطافه الظاهرة والخفية ابتداءً من بعث الأنبياء والرسل وإنزال الكتب وجهود العلماء والمبلّغين إلى تحبيب الإيمان في قلبه {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7] وتيسير أسباب الهداية وتذليل الصعوبات وإزالة الموانع وتزويده بالأدوات التي تعينه على الطاعة كالعمل والصحة والمال والبيئة المناسبة وغير ذلك كثير، قال الإمام السجاد (عليه السلام) في دعائه (ما أفشى فينا نعمتك، وأسبغ علينا منّتك، وأخصّنا ببرك، هديتنا لدينك الذي اصطفيت، وملّتك التي ارتضيت، وسبيلك الذي سهّلت، وبصّرتنا الزلفة لديك، والوصول إلى كرامتك)[10].

ولذا يحكي الله تعالى عن أهل الجنة قولهم: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43] وينبّه الله تعالى المسلمين إلى أنَّ الهداية الى الإيمان من أعظم مننهِ سبحانه قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات: 17].

روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (والذي نفسي بيده ما من الناس أحد يدخل الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمّدني الله برحمة منه وفضل - ووضع يده على فوق رأسه وطول بها صوته)[11].

فلا يعجب الإنسان بعمله ولا يثق بقدراته على الصمود في وجه الشيطان والثبات على الاستقامة وليتوكل على الله تعالى ويستعيذ به ويطلب منه التثبيت وعدم سلب نعمة الإيمان، لذا نطلب دائماً في الدعاء من الله تعالى التوفيق للطاعة (اللهم ارزقنا توفيق الطاعة وبعد المعصية).

{وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور: 21] برحمته ولطفه وكرمه حينما يبدي العبد الاستعداد لذلك وهذا هو اللطف الخاص مضافاً إلى العام، فيأخذ بمقدار قابليته واستعداده {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17] إذ أن رحمة الله تعالى متاحة للجميع (بابك مفتوح للراغبين وخيرك مبذول للطالبين وفضلك مباح للسائلين ونيلك متاح للآملين ورزقك مبسوط لمن عصاك) فعلى الإنسان أن يسعى لنيلها (إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرضوا له لعله أن يصيبكم نفحة منها فلا تَشقَون بعدها أبداً)[12] (اللهم إني أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك).

{وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} حاضر عند عباده يسمع دعائهم إذا ناجوه ويلبي طلباتهم حتى من غير مسألة لأنه عليم بأحوالهم وحاجاتهم وقابلياتهم (يا مَنْ يُعْطِي مَنْ سَأَلَهُ، يَا مَنْ يُعْطِي مَنْ لَمْ يَسْأَلْهُ ومَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ تُحَنُّناً مِنْهُ ورَحْمَةً).

وتذكر آية أخرى مثالاً لخطوات الشيطان، فإن الله تعالى بعد أن نقل تهديد إبليس {لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 118] شرح كيفية ذلك {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} [النساء: 119].

فالخطوة الأولى هي {لَأُضِلَّنَّهُمْ} بأن يقعد لهم في طريق الحق والإيمان والعمل الصالح {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: 16] فيعمل على تشويش أفكارهم وإلقاء الشبهات والشكوك وتحريف المعاني فيصبح الإيمان بالله تعالى ورسله والآخرة خرافة، والالتزام بتعاليم الدين تخلفاً ورجعية، والإلحاد وتبرّج المرأة تحضراً، والزنا واللواط حرية وميلاً طبيعياً، والتفسّخ الأخلاقي فنّاً، والحجاب قيداً وحرماناً للمرأة، وقتل المؤمنين الأبرياء وتفجير الأماكن المقدسة والمدارس جهاداً، والتحاسد والتخاصم منافسة شريفة، والحماقة والشيطنة فطنة وشجاعة، وتضييع العمر في العبث واللهو متعة ولذة، والرياء والعجب نية صالحة للأعمال، والانتقام والتشفي غضباً لله ودينه، وهكذا حتى يتيهوا ويضلّوا عن الطريق الصحيح ويصبح الحرام حلالاً.

ثم تأتي الخطوة الثانية {وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ} فيلقي في قلوب العاصين والفاسدين والمنحرفين الأماني الكاذبة والوعود وتزيين الأعمال الباطلة، وإذا استيقظ ضميره وأنّبه أماته بوعود التوبة في نهاية العمر فيحق عليهم قوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 3].

روى الشيخ الصدوق في أماليه بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (لما نزلت هذه الآية {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135] صعد إبليس جبلاً بمكة يقال له ثور، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه. فقالوا: يا سيدنا، لِمَ دعوتنا؟ قال: نزلت هذه الآية، فمن لها؟ فقام عفريت من الشياطين، فقال: أنا لها بكذا وكذا. قال: لست لها. فقام آخر فقال مثل ذلك، فقال: لست لها. فقال الوسواس الخناس: أنا لها. قال: بماذا؟ قال: أعدهم وأمنّيهم حتى يواقعوا الخطيئة، فإذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم الاستغفار، فقال: أنت لها، فوكله بها إلى يوم القيامة)[13].

ثم تأتي المرحلة الثالثة {وَلَآمُرَنَّهُمْ} [النساء: 119] حيث يصبحون أداة طيِّعة بيد الشيطان يوجههم حيث يشاء وكيف يشاء، وحينئذٍ يصبح ولياً للشيطان لأنه قبل بطاعته واتباعه {وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً} [النساء: 119]، ومن أمثلتها {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119] وهو ما يُروّجون له اليوم بحماس منقطع النظير من تغيير الجنس والمثلية والشذوذ وأمثاله من الخروج عن الإنسانية الكريمة التي جعلها الله تعالى في أحسن تقويم وأودع كل مبادئها وتعاليمها في هذا الدين الحنيف {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30].



[1] - خطبتا صلاة عيد الفطر السعيد لعام 1445 الموافق 10/ 4/ 2024.

[2] روى الشيخ الطوسي بسنده عن الإمام علي بن موسى الرضا، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام): أن إبليس كان يأتي الأنبياء (عليهم السلام) من لدن آدم (عليه السلام) إلى أن بعث الله المسيح (عليه السلام) يتحدث عندهم ويسائلهم، ولم يكن بأحد منهم أشد أنساً منه بيحيى بن زكريا، فقال له يحيى: يا أبا مرة إن لي إليك حاجة.

فقال له: أنت أعظم قدراً من أن أردك بمسألة فسلني ما شئت، فإني غير مخالفك في أمر تريده، فقال يحيى: يا أبا مرة، أحب أن تعرض عليَّ مصائدك وفخوخك التي تصطاد بها بني آدم، فقال له إبليس: حباً وكرامة؟ وواعده لغدٍ. فلما أصبح جاء بهيئة مقززّة مرعبة، (وعليه قباء، وقد شد وسطه بمَنطقة، فيها خيوط معلقة من بين أحمر وأخضر وأصفر وجميع الألوان، وإذا بيده جرس عظيم، وعلى رأسه بيضة، وإذا في البيضة حديدة معلقة شبيهة بالكلّاب، فلما تأمله يحيى (عليه السلام) قال له: ما هذه المنطقة التي في وسطك؟ فقال: هذه المجوسية أنا الذي سننتها وزينتها لهم، فقال له: فما هذه الخيوط الألوان؟ قال: هذه جميع أصباغ النساء، لا تزال المرأة تصبغ الصبغ حتى يقع مع لونها فافتتن الناس بها.

فقال له: فما هذا الجرس الذي بيدك؟ قال: هذا مجمع كل لذة من طنبور وبربط ومعزفة وطبل وناي وصرناي، وإن القوم ليجلسون على شرابهم فلا يستلذونه فأحرك الجرس فيما بينهم، فإذا سمعوه استخفهم الطرب، فمن بين من يرقص، ومن بين من يفرقع أصابعه، ومن بين من يشق ثيابه.

فقال له: وأي الأشياء أقرّ لعينك؟ قال: النساء، هن فخوخي ومصائدي، فإني إذا اجتمعت عليّ دعوات الصالحين ولعناتهم صرت إلى النساء فطابت نفسي بهن.

فقال له يحيى (عليه السلام): فما هذه البيضة على رأسك؟ قال: بها أتوقى دعوة المؤمنين.

قال: فما هذه الحديدة التي أراها فيها؟ قال: بهذه أقلب قلوب الصالحين. (الأمالي: للشيخ الطوسي: ص 339).

[3] - مستدرك الوسائل، للميرزا حسين النوري: ج 16، ص 266، نقلاً عن تفسير أبي الفتوح، وتوجد بمعناه روايات متعددة في كتب الشيعة.

[4] - نهج البلاغة، شرح الشيخ محمد عبدة: ج 2، ص 218.

[5] - الأمالي، للشيخ الطوسي: ص 339.

[6] - وسائل الشيعة: ج1/ ص 63، أبواب مقدمة العبادات، باب 10، ح 1.

[7] - راجع الروايات أكثر في تفسير من نور القرآن: ج 4/ ص 55،  ط 2.

[8] - الصلوات الشعبانية المروية عن الإمام السجاد (عليه السلام).

[9] - راجع الروايات في تفسير البرهان: ج2/ ص 92.

[10] - الصحيفة السجادية: ص 186، الدعاء (45) في وداع شهر رمضان.

[11] - بحار الأنوار، للشيخ المجلسي: ج ٧، ص ١١.

[12] - ميزان الحكمة: ج ٢، ص ١٠٥١.

[13] - أمالي الصدوق: ص 376، ح 5، تفسير البرهان: ج 2، ص 274.