التأصيل القرآني في المنهج الأخلاقي لسماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) وهي مقدمة كتاب (الاخلاق في القرآن)
بسمه تعالى
التأصيل القرآني في المنهج الأخلاقي لسماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله)
وهي مقدمة كتاب (الاخلاق في القرآن)[1]
الحمد لله الذي جعلَ من نوره هدى، ومن هداه خلقًا، ومن خلقه سبيلًا إليه. الحمد لله الذي ابتدأ كتابه بكلمة (الرحمة) وختمه بكلمة (الناس (، ليكون بينهما دستورٌ للحياة، وروحٌ للأخلاق، ومدرسةٌ للإنسانية. والصلاة والسلام على من بُعث ليُتمّم مكارم الأخلاق، محمدٍ المصطفى وعلى آله الهداة الطاهرين، الذين جسّدوا بأقوالهم وأفعالهم أسمى المعاني الإلهية.
أما بعد…
فإنّ موضوع الأخلاق في القرآن الكريم، لم يكن مجرّد بحث نظري أو طيفٍ مثاليّ في أفق التجريد، بل كان – وما زال – جوهر الرسالة، وروح الشريعة، وميزان الكمال البشري. وما من سبيل لفهم القرآن فهما تامًا، وتدبّره تدبّرًا صادقًا، إلا إذا اقترنت آياته بمنظومة القيم التي جاء ليُؤسّسها ويغرسها في النفس والفكر والسلوك.
ومن هنا، جاء هذا الكتاب (الأخلاق في القرآن( ليسلك مسلكًا منهجيًا في قراءة النصّ القرآني من زاوية أخلاقية، مستنيرًا بمنهج علمي متكامل دوّنه وأصّله سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظلّه)، والذي أفنى عمره الشريف في تفعيل البُعد الأخلاقي في كل مناحي المعرفة الدينية؛ من الفقه، والعقيدة، والسيرة، والفكر، إلى الواقع السياسي والاجتماعي، ليؤسّس بذلك منهجًا أخلاقيًا قرآنيًا معاصرًا يحمل ملامح الأصالة والامتداد، ويواجه تحديات العصر بوعيٍ وتجذّر.
لقد بدأت ملامح هذا المنهج تتبلور منذ أوائل الثمانينات، حيث كان الشيخ اليعقوبي يومذاك تلميذًا نجيبًا للسيد الشهيد محمد الصدر (قدّس سرّه)، وكان بينهما مراسلاتٌ أخلاقية عميقة تُعنى بتزكية النفس، تم جمعها لاحقًا في كتاب (قناديل العارفين (، ليكون وثيقة نادرة في السلوك الروحي، تجسّد كيف تتلاقى النفوس العارفة في حضرة الله، وتتكامل في مدارج السير والسلوك، وضمّنها دروسًا عملية للمهذّبين والسالكين.
وفي مطلع الألفية الجديدة، وبعد سقوط النظام البعثي، ألقى سماحته سلسلة دروس استثنائية على طلبة الحوزة بعنوان (الأسوة الحسنة للقادة والمصلحين (، اختط فيها طريقًا لتربية الشخصية الرسالية عبر الاقتداء العملي بسيرة رسول الله (9)، مستعرضًا مواقفه الأخلاقية كقائد ومربٍ ومُصلح. وقد جُمعت هذه الدروس في كتاب رصين يحمل نفس العنوان، وطُبع عدة مرات، وكان لها الأثر الكبير في إحياء الوظيفة الأخلاقية لطلبة العلم.
ولم تكن هذه المحاولات مجرد فصول منفصلة، بل كانت بواكير منهجٍ متكامل بدأ الشيخ بتقعيده وبيان أصوله الفكرية والروحية في مؤلفه العميق (السبيل إلى المعنويات)، الذي صدر في أكثر من 500 صفحة، وجمع فيه خلاصة الرؤية الأخلاقية الإسلامية في ضوء القرآن وسيرة المعصومين. ركّز فيه على تفعيل دور القرآن كأداة تزكية، وربط العبادة بالرقابة، والدعاء بالتحوّل الداخلي، جاعلاً من هذا الكتاب مرجعًا لمن أراد أن يسير إلى الله، لا بسلاسل الطقوس، بل بروح المسؤولية والصدق.
ولم يقتصر اهتمام الشيخ بالأخلاق على المؤلفات المتخصصة، بل سرت هذه الروح في سائر كتبه الفكرية والفقهية والاجتماعية. ففي كتابه (حبس الحقوق الشرعية من الكبائر)، ربط بين التقصير المالي وبين الخلل الأخلاقي في الشعور بالمسؤولية. وفي رسالته (ضمان الطبيب وذوي المهن) أكّد على أمانة المهنة وضرورة اتّباع الضمير الحيّ في مزاولة العمل.
أما في كتبه السيروية – مثل (النبي المصطفى (9) في القرآن)، و(دروس من قيادة الإمام الرضا (ع))، و(جعفر الطيار فتى النقاء) – فقد عمد إلى استخراج القيم الأخلاقية من مواقف أهل البيت وسيرهم، ليقدّم من خلالها دروسًا واقعية قابلة للتطبيق، تجعل من التاريخ منبعًا حيًا لبناء الذات.
وتجلّى البعد الأخلاقي بقوة في كتبه الموجهة إلى المجتمع، مثل (نحو سياسة نظيفة) الذي دعا فيه إلى تطهير السياسة من الانتهازية، وفي (قضايا المرأة في الفكر الإسلامي)، حيث ناقش حقوق المرأة وحدود الاختلاط من زاوية خلقية راقية، وفي (ظواهر اجتماعية منحرفة)، الذي واجه فيه التحديات الأخلاقية المعاصرة بروح إصلاحية جريئة.
وقد أولى سماحته عناية خاصة بالشباب، فأصدر لهم كتبًا مثل (توجيهات ثقافية وأخلاقية للطلبة الجامعيين)، و(الرياضة المهذبة في الإسلام)، محذرًا من منزلقات الشهوة والإعلام، وداعيًا إلى الانضباط والسمو. كما وجّه خطابه إلى زعماء العشائر وطبقات المجتمع المختلفة في كتاب (نحو إصلاح النظم العشائرية)، مُقدّمًا مشروعًا متكاملاً لضبط الأعراف بالشرع والخلق.
وقد شكّلت خطبه ومحاضراته التي ألقاها الشيخ طيلة أكثر من عقدين، ركنًا أساسياً في ترسيخ منظومته الأخلاقية. فجمعت هذه الخطب – التي نشرت في موسوعة تحت عنوان (خطاب المرحلة) – بين المعالجة الواقعية للمشكلات وبين الغايات القيمية العليا، وجعلت من المنبر العلمائي منبرًا إصلاحيًا فكريًا، يُخاطب القلب والعقل معًا. وكانت سلسلة القبسات التي يطلقها سماحته بين حين وآخر، رسائل فكرية ولكن عميقة، تسلّط الضوء على مفاتيح أخلاقية مركّزة من آية أو حديث.
إنّ كل هذه المؤلفات والدروس والحوارات، تشكّل بمجموعها البنية التحتية لمنهج أخلاقي قرآني متكامل، استطاع فيه سماحة الشيخ محمد اليعقوبي أن يربط بين النص الإلهي ومتطلبات النفس، بين العقل والدين، بين الفقه والوجدان. لقد أعاد للأخلاق دورها المحوري في المشروع الإسلامي، بعد أن كادت تُختزل في الوعظ المجرد، فجعلها معيارًا للتكليف، وروحًا للحكم، وأفقًا للمعرفة، ومنهجًا للتغيير.
وهذا الكتاب الذي بين يديك – (الأخلاق في القرآن) – لا يُمكن أن يُقرأ بمعزل عن هذه الخلفية. بل هو نتاج تراكمي لمنهج علمي تربوي تشكّل عبر سنين من البحث، والتدريس، والخطاب، والتفاعل مع هموم الأمة. لذا، فإن من يقرأ هذا العمل، لا يقرأ سردًا أكاديميًا جافًا، بل يغترف من معين تجربة تربوية غنية، أسسها مرجعٌ معاصر يُمازج بين المعرفة والقدوة، بين النص والحياة، بين القرآن والإنسان.
فهذا المنهج ليس مجرّد انتقاءٍ لآياتٍ أو تعليقاتٍ وعظيّة، بل هو بناءٌ علمي متكامل، أرسى فيه سماحته قواعد النظر الأخلاقي من منطلق قرآني بَحت، مُستضيئًا بأنوار مدرسة أهل البيت عليهم السلام، مستندًا إلى أدوات علميّة دقيقة، جعلت من هذا العمل أحد أبرز المشاريع الأخلاقيّة المعاصرة.
تميّز هذا المنهج بالوضوح في التصنيف، والدقّة في التحليل، والتجذير العميق للمفاهيم الأخلاقيّة في بنية النصّ القرآني، دون افتعالٍ أو تحميلٍ، بل بروحٍ قرآنيّة صافية، تسعى لإحياء ضمير الإنسان، لا تسكينه، وتربية وجدانه، لا ترويضه.
وقد جاء هذا الكتاب – الذي بين يديك – ليكون عرضًا تحليليًا واستكشافًا تطبيقيًا لمعالم هذا المنهج، بغية تقريب مضامينه إلى طلاب الفضيلة، وتيسير الإفادة منه للباحثين في الأخلاق القرآنيّة، والتربويين، والدعاة، وكل من يتطلّع إلى ترسيخ القيم في زمن انحسارها.
فنسأل الله أن ينفع به، وأن يجعله لبنةً في مشروع إصلاحي يُعيد للأخلاق القرآنيّة مجدها، وللنفس الإنسانيّة سُمُوّها، وأن يتقبّله خالصًا لوجهه الكريم.
والله وليّ التوفيق
[1] - كلمة كتبها فضيلة الشيخ هادي الكعبي بمناسبة صدور كتاب (الأخلاق في القرآن الكريم) لسماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) الذي ضمَّ تفسير خمسين آية تقريباً في الاخلاق الفردية والاجتماعية ونشره في مقدمة الكتاب.