العفاف ... سر السمو الإنساني

| |عدد القراءات : 26
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسمه تعالى

 العفاف ... سر السمو الإنساني[1]

في يوم العفاف الذي اختير له أن يكون في ذكرى ميلاد العقيلة زينب (سلام الله عليها) ــ المثل الأعلى للعفاف، وأسوة الطهر والشرف ـ  حدّث يحيى المازني ، قال : كنت في جوار أمير المؤمنين × في المدينة مدّة مديدة ، وبالقرب من البيت الّذي تسكنه زينب ابنته ، فلا - واللّه - ما رأيت لها شخصا ، ولا سمعت لها صوتا ...»[2]، فهي بحقّ رمز العفاف.

وفي هذه المناسبة نستذكر بعض الأمور باختصار:

الأوّل: أهميّة صفة العفاف ومحوريّتها في تكامل الإنسان ؛ فهي من أعظم القيم الأخلاقيّة. يقول أمير المؤمنين × :  >الْعِفَّةُ رَأْسُ‏ كُلِّ خَيْرٍ<[3] ؛ فهي خصلة ذات قيمة كبرى، وقد قال × : « مَا الْمُجَاهِدُ الشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَعْظَمَ أَجْراً مِمَّنْ قَدَرَ فَعَفَ‏ لَكَادَ الْعَفِيفُ أَنْ يَكُونَ مَلَكاً مِنَ الْمَلَائِكَة<[4] إنّها بحقّ صفة عظيمة وشرف رفيع.

الثاني: منذ بدء الخليقة كان الصراع بين الحقّ والباطل، بين جند الرحمن وجند الشيطان، هي (معركة عفاف)؛ فالله تعالى يخاطب الإنسان بقوله: { إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ } [طه : 118] ، أي أنّ الله تعالى يريد للإنسان العفاف، وقد ضمن له العفاف في الجنّة ، أمّا الشيطان فقد أدرك أنّ وجود هذه الخصلة في الإنسان يمنعه من تنفيذ مشروعه ؛ إذ إنّ العفاف يقود إلى التكامل والرشد والاستقامة، فمع وجوده لا يبلغ الشيطان مراده.

ولهذا قال تعالى: { فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا} [الأعراف : 20] ، فهي معركة عفاف منذ البداية، أراد الشيطان أن يُظهر سوآتهما، فإذا ظهرت انتهى الأمر، وصار الإنسان في قبضته؛ لأنّ من فقد الحياء والعفاف صار مطيّة للشيطان.

فمنذ أوّل خلق البشريّة كانت المعركة ـ ولا تزال ـ معركة عفاف، الله تعالى يريد العفاف، والشيطان لا يريده، قال تعالى: { يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} [الأعراف : 27] أي لباس العفاف، {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا}[ الأعراف : 22] فأوّل ما سُلِب من الإنسان هو هذه الخصلة الكبيرة وحقّق الشيطان مطلوبه، ولما اكتشفا قبح الحالة سعيا الى سترها، إذ قال تعالى: { وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف : 22 ] أي حاولا استرجاع هذه الصفة الكريمة.

ويقول الله تعالى في مواضع عدّة من القرآن الكريم: { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}[الأعراف : 26 ] إذن من أوّل يومٍ كان الصراع بين الشيطان والإنسان ومحوره العفاف.

فينبغي لنا أن نفهم طبيعة هذه المعركة، لنكون على وعيٍ تجاه كثير من الصيحات والأجندات التي تتظاهر بعناوين برّاقة، لكنها في الحقيقة تسعى لسلبنا العفاف، في حين أنّ الله تعالى يريد لنا أن نحافظ عليه، هذه هي طبيعة المعركة.

الثالث: علينا أن نلتفت إلى سعة معنى العفاف وشموله لموارد عديدة، وإن كان الذهن ينصرف عند ذكره إلى العفّة في العلاقة مع الجنس الآخر، أي العفّة الجنسيّة، وهذا صحيح، فهي من أوضح صور العفاف، وقد ورد في الأحاديث: « وَعَفَ‏ فَرْجُهُ‏ »[5].

لكنّ للعفاف معنى أوسع ومدىً أشمل، إذ إنّ العفاف إنما صار رأس كلّ خير لأنّه حاظر ومقّوم في كلّ مجالٍ من مجالات الخير:

·            فعفّة اللسان، مثلاً، أن يعفّ عن البذاءة، والغيبة، والنميمة، والإساءة إلى الآخرين، وفحش القول[6].

·            وعفّة الأذن، أن لا تسمع الغيبة ولا النميمة، ولا تسعى إلى سماع الإساءة أو السعاية[7].

·            وعفّة العين، أن لا تنظر إلى الحرام[8].

·            وعفّة البطن، أن لا يأكل الإنسان إلا ما أحلّ الله تعالى، ولا يُقدِم على الحرام[9].

·            وتصل العفّة إلى القلب، بأن لا يكون في القلب أحدٌ سوى الله تعالى، مخلصاً له في كلّ نيّةٍ وعمل[10].

بهذا المعنى الواسع، اكتسبت صفة العفاف قيمتها الكبرى، إذ شملت كلّ مجالات سلوك الإنسان وأخلاقه ، ومن وصيّة أمير المؤمنين (عليه السلام) لمحمد بن أبي بكر حين ولاّه مصر قوله: >...يَا مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، اعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ الْفِقْهِ الْوَرَعُ فِي دِينِ اللَّهِ، وَ الْعَمَلُ بِطَاعَتِهِ ...<[11] ، وفي الأحاديث الواردة عن صفات شيعة جعفر × فعَنِ الْمُفَضَّلِ قَالَ : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ × :‏ > إِنَّمَا شِيعَةُ جَعْفَرٍ مَنْ‏ عَفَ‏ بَطْنُهُ‏ وَ فَرْجُهُ وَ اشْتَدَّ جِهَادُهُ وَ عَمِلَ لِخَالِقِهِ وَ رَجَا ثَوَابَهُ وَ خَافَ عِقَابَهُ فَإِذَا رَأَيْتَ أُولَئِكَ فَأُولَئِكَ شِيعَةُ جَعْفَرٍ<[12] ؛ فمعنى العفاف إذن واسعٌ وعميق.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممّن قَدَر فعفّ، حتى نبلغ المقام الذي قال فيه أمير المؤمنين ×: «لكاد العفيف أن يكون مَلَكاً من الملائكة».

والحمد لله ربِّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا أبي القاسم محمّدٍ وعلى آله الطاهرين.

الاولى



[1] ـ كلمة مختصرة أستهل بها سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) درس البحث الخارج في ذكرى مولد عقيلة الطالبيين السيدة زينب الكبرى بنت الإمام أمير المؤمنين (عليهما السلام) بتاريخ الثلاثاء 5 جمادى الأول 1447 هـ  الموافق 28 / 10 / 2025 م

[2] ـ  وفيات الأئمة،436.

[3] ـ غرر الحكم و درر الكلم ؛ الفصل : 1 ؛ حرف الالف ؛ ص62 ؛ الرقم  1212 .

[4] ـ نهج البلاغة ؛ ص469 ؛ باب المختار من حكم أمير المؤمنين عليه السلام الرقم : 482 .

[5] ـ عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية ؛ ج‏1 ؛ ص23 .

[6] ـ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ’ : >إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْحَيِيَ‏ الْمُتَعَفِّفَ‏، وَ يُبْغِضُ الْبَذِيَّ السَّائِلَ الْمُلْحِفَ< . الأمالي (للطوسي) ؛ ص39 .

[7] ـ قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ × : > مَنْ عَفَّتْ‏ أَطْرَافُهُ‏ حَسُنَتْ أَوْصَافُهُ< . غرر الحكم و درر الكلم ؛ ص658 ؛ الفصل : 77 ؛ حرف الميم ؛ الرقم : 1396 .

[8] ـ وَ عَنِ الْحَارِثِ الْهَمْدَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ × : >حَسْبُكَ مِنْ كَمَالِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يُحْمَدُ بِهِ، ... وَ مِنْ وَرَعِهِ عِفَّةُ  بَصَرِهِ‏، وَ عِفَّةُ بَطْنِهِ...< . نزهة الناظر و تنبيه الخاطر ؛ ص44 .

[9] ـ عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الباقر × قَالَ: >مَا عُبِدَ اللَّهُ بِشَيْ‏ءٍ أَفْضَلَ مِنْ عِفَّةِ بَطْنٍ‏ وَ فَرْجٍ<. الكافي (ط - الإسلامية) ؛ ج‏2 ؛ ص79 ؛ بَابُ الْعِفَّةِ ؛ ح 1 .

[10] ـ > ... ويبلغ العفاف اسمى مراتبه في عفّة القلب وطهارته من كل الرذائل الخُلقية كالحقد والحسد والانانية والعصبية والرياء والعجب وغيرها ويتسامى اكثر فلا يسكن فيه غير محبة الله تبارك وتعالى (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء:88 - 89) وسلامة القلب تعني طهارته وتعفّفه عن التعلق بما سوى الله تعالى، لما سُئِل الامام الصادق (عليه السلام) عمّا يسمونه بالعشق بين الجنسين قال (عليه السلام): (قلوبٌ خلت من ذكر الله فاذاقها الله حب غيره)...<. من كلمة للمرجع اليعقوبي دام ظله القيت يوم الجمعة 5/ج 1/1438 المصادف 3/2/2017 بمناسبة ميلاد العقيلة زينب بنت أمير المؤمنين (عليهما السلام) الذي أعلن يوم للعفاف.

[11] ـ الأمالي (للطوسي) ؛ ص30 .

[12] ـ صفات الشيعة ؛ ص11 .